تشكّل الحروب والصراعات الدائرة شرارات لروايات كثيرة تنبثق منها، تقاربها من زوايا مختلفة، تستعرض بعضاً ممّا دار في فلكها أو على هوامشها، لتشكّل نقاطاً للتدبّر وبواعثَ للتأمّل في ما كان وما يمكن أن يكون. الحرب العالميّة الثانية التي ألهمت الكثير من الروائيّين، تشكّل شرارة للبولونيّ ييجي كوشينسكي الذي صوّر بعضاً من العنف الذي تنامى على هامشها، منقّباً في الخلفيّة الاجتماعيّة والثقافيّة التي تقاطعت لتشعل الحرب، في روايته «الطائر المصبوغ»، (الهيئة العامة السوريّة للكتاب، ترجمة محمود الهاشمي، 2011)، الرواية التي ترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، ونال عنها جوائز. يروي كوشينسكي سيرة طفل صغير، في الأسابيع الأولى من الحرب العالميّة الثانية. يجاهد زوجان لإنقاذ طفلهما الوحيد ذي الستّة أعوام، فيرسلانه مع أحدهم إلى مناطق نائية، سعياً منهما لضمان بقائه حيّاً أثناء الحرب، وذلك لأنّهما كانا مطارَديْنِ، وتحت تهديد وملاحقة من النازيّين، لذلك تأمّلا إنقاذه، لكنّهما فقدا الصلة بذاك الرجل جرّاء فوضى الحرب والتنقّلات والتصفيات الكثيرة. ولسوء حظّ الطفل أنّه فقد المرأة التي تكفّلت بتنشئته ورعايته بعد شهرين من وصوله، فتُرك وحيداً، وشعر بتيتّمه للمرّة الثانية، فيهيم بين القرى، مستتراً حيناً ومطارَداً أحياناً. وكانت القرى التي اضطرّ للجوء إليها في سنواته الأربع اللاحقة تختلف عن منطقته التي ينحدر منها، ما كان يبديه منبوذاً ولقيطاً في نظر الناس هناك. كما كانت تلك المناطق رازحة تحت تأثير الجهل والتخلّف والفقر والبؤس، وعمّق شقاءَها، وقوعُها بين نارين؛ نارِ القوّات النازيّة، ونارِ الثوّار والمقاومين، فكانت تذوي وتحترق ببطء. يرتحل الطفل من قرية إلى أخرى، ينقل معه أساه ويتمه ونبذه، يُقابَل بالاحتقار في حلّه وترحاله، ولا يلبث أن يقيم في مكان ما، حتّى تداهمه الويلات فيضطرّ إلى تركه، بعد مشاهد عنيفة يكون شاهداً عليها، يجد نفسه مشتركاً وغائصاً فيها رغماً عنه. تعثر عليه العجوز مارتا، التي يصفها بمرارة وأسى، تأخذه معها إلى كوخها، تنبّهه إلى مخاطر الاحتكاك بالقرويّين الذين سيهينونه، وبعد مكابدات كثيرة، يصف الطفل لحظة اكتشافه موت مارتا، وحزنه الشديد عليها، ثمّ هروبه حين شاهد القرويّين يقصدون الكوخ، وتصويره للحالة المزرية التي بلغتها العجوز، مع تصويره لاحتراق كوخها، واحتراق ذكراها في خياله، فيجد نفسه سجين الغابة، ومضطرّاً للابتعاد عن القرية، وحين مروره بعدّة قرى، يتعرّض لأبشع أساليب التنكيل والتعنيف، يستغرب من العدوانيّة تجاهه، هذا يلكزه، وذاك يوخزه، وآخر يبالغ في تأّذيته، تتقاذفه الأيادي، يغدو محطّ احتقار الآخرين، وموضع سخريتهم وتعنيفهم، يُسقطون عليه هزائمهم، يغدو كأيّ متاعٍ بالٍ، ينتقل من ملكيّة فلاح إلى ملكيّة آخر، يوقَف للإهانة والخدمة، وقد يقبلون على التفرّج عليه والتفرّس في ملامحه، وإجباره على التهريج لهم. بعد ذلك تحتضنه امرأة مرهوبة الجانب؛ أولغا، التي تحظى باحترام الجميع وخشيتهم، تداوي جراحه، وهي المشهورة بعلاجاتها وشعوذاتها، يتعلّم منها بعض الأمور، اندهش حين كشفت له أولغا أنّه تتملّكه روح شريرة تربض في داخله مثل خلدٍ في جحر عميق، وأنّه بتلك الروح يُسحِر، من دون أن يدري، وكانت أولغا مسكونة بالوساوس والتصوّرات الغريبة عنه، تظنّه جثّة تمتصّ الدماء، تسعى بممارساتها إلى كبح رغائب روحه الشريرة كما تزعم، وبعد كثير من المفارقات المريرة، يجد نفسه مرّة أخرى يتيماً وحيداً، لا سند له ولا مسكن، يتشرّد في تلك البقاع، يحاول دوماً الاعتماد على نفسه والاستفادة من الخبرات التي يكتسبها ممّن عاش معهم أو التقاهم، يقوّي وسائله الدفاعيّة ليتمكّن من العيش. ينتقل إلى بيت طحّان، يعاني عنده الويلات، وهناك يفجع بالعنف الذي يبلغ حدّاً غير معقول من قبل الطحّان على شابّ وسيم لا ذنب له سوى أنّ زوجة الطحّان اشتهته، يقتلع الطحّان عيني الشابّ، يصف الطفل الحالة الهستيريّة التي تلبّست الطحّان، وهو يتلذّذ بالتمثيل بالشابّ، وقلع عينيه، ثمّ دعسهما، وذلك في مشاهد غاية في العنف والساديّة والإيلام. يهرب الطفل من عند الطحّان، ليعيش في كهف برفقة صائد طيور يعتاش على صيده، ينصب له الطفل الشِراك، معه يتعلّم الطفل أسراراً كثيرة عن الطيور والغابات، ويقارنها مع سلوكيّات وأسرار البشر، يتعرّف إلى وسائل الصائد الغريبة وانتقاماته الإجراميّة وقصصه اللامألوفة، يعلّمه أنّ على المرء دائماً أن يراقب الطيور باهتمام، وأن يستخلص النتائج من سلوكها، لكنّ الصائد يقع فريسة عشقه للودميلا الغبيّة، يسعى وراءها، ويفقد عقله حين تغيب عنه، فيبحث عنها، لودميلا التي كانت ضحيّة اغتصاب جماعيّ، والتي تحوّلت إلى ناقمة على الجميع، تنتقم بتصرّفاتها الجهنّميّة، ثمّ تنتهي في حفلة تعذيب جماعيّ، وتقضي على أيدي نساء القرية اللائي يقرّرن التمثيل بها، والقضاء على شرورها، بإبعادها رجالهنّ عنهنّ، يُفرغن عليها غضبهنّ العنيف، وتكون نهايتها المفجعة، ونهاية الصائد المفجوع بها. مغامرة الطفل لا تنتهي، واكتشافاته تتوالى، يزداد صلابة ومعرفة بعد كلّ مصيبة، تستوقفه مشاهد كثيرة، يجد فيها العبر، يختزنها في ذاكرته، لتشكّل له ذخيرة يستعين بها في أيّامه اللاحقة، تحفر بعض المشاهد عميقاً في روحه، لا يستطع نسيانها، يتذكّرها بين الفينة والأخرى، يتذكّر صديقه لِخ ووسائله المجنونة في تبديد أسراب الطيور، والتحايل عليها، حين كان يختار أقواها، ويربطه بمعصمه، ويهيّئ أصباغاً من الألوان المختلفة تفوح منها الروائح الكريهة، حصيلة مزج متنوّع، ثمّ يصبغ الطائر بها، حتّى يغدو أشدّ تبقّعاً ونضارة من باقة من الأزهار البرّيّة، وعندما يتجمّع عدد كافٍ من الطيور، يطلق لِخ أسيره المصبوغ، يحلّق سعيداً وحرّاً، بقعة من قوس قزح قبالة الستارة الخلفيّة للغيوم، ثمّ ينخرط في السرب المنتظر، فتتبلبل الطيور لحظة، يدور الطائر المصبوغ من جهة إلى أخرى، محاولاً عبثاً إقناع الطيور بأنّه واحد منها، ولكنها لا تقتنع، ليضطرّ الطائر المصبوغ إلى الطيران مسافة أبعد فأبعد وهو يجاهد لدخول السرب، لكنّ فجيعته تكون في انقضاض السرب عليه في هجوم عنيف، ليفقد الشكل الملوّن مكانه في السماء، ويهوي إلى الأرض، في عمليّة انتقاميّة، ينهار السرب، يتفتّت الانتماء والتكاتف، يضيع الفرد ويقع ضحيّة سوء فهم، وسوء لون، وكلاهما خارجان عن إرادته، ويفوقان طاقاته. يظلّ العنف والنبذ ملتصقين بالصبيّ، يلتجئ إلى نجّار يقاسي عنده أبشع أنواع الظلم والتنكيل، ثمّ من هناك إلى حدّاد في قرية نائية، بعد أن ينفّذ انتقامه من النجّار ويقضي عليه في عملية ثأر إجراميّة نادرة، يشرك فيها الحيوانات لتعاونه على الإفلات من مصير أسود يتربّص به. ثمّ يقضي أيّاماً مع إوكا، ويتعرّف إلى أساطير معشّشة في أذهان الناس، يتعلّم عند غاربوس الكثير من الأمور، ينتهي به المطاف في معسكر للقوّات السوفياتيّة، وهناك يكتشف عالماً جديداً مختلفاً، يتعلّم القراءة والكتابة، يتفاجأ بالحياة العسكريّة، يصادق بعض العساكر، يعشق القادة السوفيات، يجاهد للتماهي معهم، وبخاصّة مع ستالين. يتوصّل إلى قناعة يرسّخها لديه صديقه ميتكا، يدرك أنّه لا بدّ من الوئام مع الذات، وأنّ هناك دروباً ومرتقيات كثيرة تؤدّي إلى القمّة الأخلاقيّة، وأنّ المرء يستطيع بلوغ القمّة وحده، بمعونة شخص واحد على الأكثر. وبالتنقّل بين مشهديات الموت والعنف، يؤلمه النبذ والاحتقار، يلفظه الجميع، لا يريد أحد أن يحتفظ به، فالطعام نادر، علاو على خطورة الاحتفاظ بمتشرّد قد يجرّ على المحتفظ به غضب القوّات النازيّة. يجول بين القرى، يتلفّع بخرقه العتيقة، يتحوّل إلى لصّ ليتمكّن من البقاء على قيد الحياة، تقوده المصادفات دوماً أن يكون قاتلاً أو شاهداً على القتل، بالموازاة مع المشاهد العنيفة التي لا تهدأ. حيث العنف سيّد الزمان والمكان. وبعد بقائه في المعسكر، ثمّ انتقاله إلى ميتم، وبنائه صداقات مع بعض الأطفال، يُصدَم بوالديه يأتيان إليه، ويعيدانه معهما، يوطّن الطفل فكره على وجوب الرضوخ لوالديه، لكنّ الجنون الذي يسكنه، والتمرّد الذي اجتاحه، والاكتشافات التي اكتشفها تحول دون تأقلمه مع الحياة الجديدة، التي لا يجد بدّاً من الانخراط فيها، لكنّه لا يستطيع التخلّي عن أصباغه التي كست روحه، ولا يستطيع غيره نزع ذاك اللحاء المصبوغ عن روحه أيضاً. يؤكّد كوشينسكي أنّه تعمّد أن يترك قوميّة شخصيّات الرواية وأعراقها غامضة لئلاّ تُفهم فهماً سيّئاً، بأنّها تتعلّق بشعب معيَّن، وليست معنيّة بالبشر عموماً وما يمكن أن يكونوا عليه. ذلك لأنّه يعالج الوحشيّة والعنف الكامنين في الكائنات البشريّة، لتكون باعثة على النفور والاعتبار والإدانة. الكاتب المسرحيّ مارك كونيلي يعبّر عمّا تنطوي عليه الرواية من الوجهة الإنسانيّة قائلاً: «توجد في «الطائر المصبوغ» قساوات وحشيّة ستجمّدك حتّى العظم. ولكنّ هذا المسرود البطوليّ عن طفل صغير متشرّد في عالم كابوسيّ قد رُويت بصورة تحرّك النفس بحيث يتوهّج الكتاب بالإنسانيّة والحنوّ ويتركك ممتنّاً بحرارة». كما يتحدّث جون ياردلي عن العمق الإنسانيّ والفكريّ فيها قائلاً: «لا توجد بين جميع الروايات التي انبثقت من الحرب العالميّة الثانية رواية تفوق «الطائر المصبوغ» وهي رواية تعالج الأسباب السياسيّة للحرب، بل التربة الاجتماعيّة والثقافيّة لنشوء الحرب». وحول رمزيّة الطائر المصبوغ تقول الروائيّة أناييس نن: «إنّ الطائر المصبوغ رمز لما يحلّ محلّه طوال الكتاب. إنّه اضطهاد الأنواع للنوع البشريّ، ولكنّه في معظم الأحيان اضطهاد ضمن النوع ذاته لمن يبدو غير منتمٍ إليه». ولد ييجي كوشينسكي في 14 حزيران (يونيو) 1933، في ودج في بولونيا، درس التاريخ والعلوم السياسيّة في مدينته، تابع دراسته الأكاديميّة في الولايات المتّحدة، حقّق نجاحاً لافتاً، درّس في جامعات، فقد زوجته إثر مرض ألمّ بها، وبعد زواجه الثاني، وتدهور صحته تالياً، وُجِد منتحراً في 3 أيّار (مايو) 1991. كتب في كلمة وداعه: «إنّني ذاهب لأخلد إلى النوم مدّة أطول قليلاً من المألوف. سمّوها الأبديّة».