حين شاهدت صور الرسام المبدع علي فرزات على الشاشة، مَرضوضاً ومتأذياً من ضرب وحشي، وأنامله التي أبدعت رسوماً رائعة مكسورة، غشتني موجات عنيفة من الشعور بالقهر والغضب والحزن، ولكن خلف هذه المشاعر، انبثقت عبارة مني بأن ما أشاهده هو تجسيدٌ قوي للحظة حسم... منظر مفكر ومبدع شفاف ونزيه وعالي الموهبة وملتزم بقضايا إنسانية وعادلة، منظره وقد تعرّض لضرب وحشي، وإصرار المعتدين على تكسير رأسه من طريق تكسير يديه. منظر علي فرزات وهو على سرير الإسعاف في المستشفى لا يعني سوى تفسير واحد، أن القوة الظالمة الباطشة تخشى من قلم الحق... أية قوة تكمن في القلم؟ أية قوة تكمن في الحق؟ الحق الأشبه بزلزال قادر أن يشق طبقات الظلم المتراكمة مهما طال بها الزمن... لا يمكنني أن أنسى أبداً ذلك اليوم، كنتُ أحضر معرضاً لرسوم علي فرزات في المركز الثقافي في اللاذقية، كنتُ قد انتهيت من كتابة روايتي «نساء بأقفال»، التي صورتُ فيها حياة العوانس، والظلم الاجتماعي الذي يتعرّضن له، وكان الناشر قد أرسل لي نماذج عدة لصور الغلاف، لكنّ أياً من النماذج لم يقنعني، ووجدتني فجأة أتوقف مخطوفة الأنفاس ومبهورة أمام لوحة لعلي فرزات، لوحة تضم رجلاً وامرأة، عينا المرأة وفمها عبارة عن أقفال، والرجل يتقدم المرأة، ويمسك بيده سواراً يضم أربعة مفاتيح كبيرة... همستُ بكل جموح روحي، هذه اللوحة هي غلاف روايتي، وشعرتُ بأن علي فرزات تفوق عليّ ، أنا التي قضيتُ شهوراً أكتب عن معاناة العوانس وعن القهر والظلم والتبعية التي تتعرض لها المرأة في شكل عام، والعانس في شكل خاص، استطاع علي فرزات بمجرد لوحة ضخ الروح المُعذبة للمرأة، المرأة التابعة التي يملك الرجل حق تقرير مصيرها... لم أكن قد التقيت علي فرزات، لكنّ حماستي لاقتناء اللوحة وموافقة الناشر على التفاوض مع رسام مبدع مثل علي فرزات لشراء اللوحة إياها، جعلاني ألجأ إلى صديق مشترك بيننا كي نشتري اللوحة منه... وفعلاً اتصل به الصديق، وفوجئتُ بأن علي فرزات يهديني اللوحة لتكون غلافاً لروايتي، ولا يريد ثمناً... أحرجني بكرم روحه ونبل نفسه، فاتصلتُ به أشكره، وبكل تواضع قال أن لا داعي لشكره وأنه يسعده أن تكون إحدى لوحاته غلافاً لروايتي... بعد أشهر من تلك الحادثة التقيت بعلي فرزات في اللاذقية، وكان لي الحظ بأن أتحدث إليه مكتشفة الإنسان المسكون بالقلق والهمّ والمُصرّ على أن يكون له دور في وطنه، كان يملك رؤية مسبقة لكل التمزقات التي نمرّ بها الآن، وكان ألم روحه صريحاً، لم يتمكن من إخفائه، لكنه كان ينجح دوماً في أن يعطي للألم رونقاً. ألمه أنيق، هذا ما أحسسته، على رغم دهشتي من وصف الألم بالأناقة، تساءلت كيف أصف ألمه بالأناقة، وفكرت بأن علي فرزات يبدع في تحويل كل ما هو عادي، ونشعر بأنه بمتناولنا، إلى مدهش... علي فرزات يستطيع أن يرسم الحياة بكل صخبها، يستطيع أن يرسم النور والظلمة، وأن يكشف أعماقنا، يستطيع أن يرسم الشغف، والنبوءة، رسومه مشحونة بطاقة تولّد التفكير، وتفجر الأسئلة. كم هو قوي ووحشي أن نرى مبدعاً بقامة علي فرزات وقد كُسرت أصابعه، والغاية هي إذلاله، وسحق الإنسان فيه، وهدر حبر قلمه المبدع، لكن هؤلاء الجبناء، المختبئين وراء غلالات الظلام، لا يعرفون أن حبر قلمه هو نسغ الإبداع المتدفق مباشرة من شرايينه... أريد أن أقول إن علي فرزات يملك المفاتيح الأربعة، لكنها مفاتيح مختلفة عمّا هي في رسمه البديع الذي أهداني إياه ليكون غلافاً لروايتي نساء بأقفال، المفاتيح الأربعة التي تملكّها صديقي، هي الحرية، الكرامة والشجاعة، أما المفتاح الأخير فهو مفتاح الحقيقة... قريباً تلتئم كسور أناملك المبدعة، وستعاود الرسم لتكشف لنا القناع عن الوجوه الملثمة لكائنات لا يمكن وصفها بالبشر، لأن الإنسان وجه... وهؤلاء شوّه الحقد والكره وجوههم فأخفوها وراء أقنعة الظلام...