* «في البال» للأديبة غصون رحال، هذه الرواية التي تشدك من بدايتها إلى نهايتها لتعرف فحوى المكتوب «في البال»، لتتساءل هل سيأخذك إلى أماكن بعيدة، وهل سيحلق بك وبمخيلتك ويجعلك تتساءل: ما الذي قصدته غصون بذلك؟ أسئلة كثيرة تثري الخيال، لكنها لن تجاب إلا بعد أن تقرأ ما «في البال» وكأنها إشارة إلى أن ذلك سيأتي به المخاض. أول ما شدتني لوحة الغلاف، لوحة الغلاف من إبداع الفنان التشكيلي سلمان المالك رغم قتامتها والألم الذي تلقيه على روح المشاهد، والتي اعتمدت على اللون الأحمر القاني بين تدرجات الأزرق الداكن، فتعطي المشاهد منذ اللحظة الأولى نوعا من الانقباض، فالجسد في اللوحة جسد امرأة، واللون الأحمر يبرز كقاعدة للجسد، وملامح تجريد الوجه توحي كما لو أن صاحبة الجسد تصرخ بقوة، تتألم، فيما يدها اليمنى تمتد إلى صدرها، وبدل كف اليد نجد تشويشا خطيا يتمازج بين اللونين الأسود والأزرق الداكن، وكأنها تضغط على الجزء الأيسر من صدرها أو تريد إسناده فهل تصرخ المرأة يا ترى من ألم في جسدها، أم أن ذلك الجسد يعاني الحرمان، فتحول لونه إلى لون الحمم البركانية؟ تتخلل اللوحة إشارات لونية متفائلة، بين الأصفر والأبيض على أعلى اليد، وكأنها إشارات لتحقق الحلم أو الأمل من خلال جهد ذاتي. الإهداء: إليه هناك، في عليائه.. عنوان ولوحة الغلاف والإهداء، في تفهم رؤية الروائية غصون العامة لتبقى الأسئلة تراودك، والتساؤلات تشدك للبدء بالقراءة مباشرة ظنا منك بأن هذه التساؤلات ستتلاشى مع قراءة صفحة الرواية الأولى، فإذا بالتنويه يملأك حبا وحيرة، تشعر أنك أمام مغامرة روائية، أو رواية مغامرة بالأصح، فتتشجع أكثر للقراءة، لكنك قبل أن تفعل؛ تنتقل إلى الغلاف الأخير لتقرأ نبذة عن الرواية، على أمل أن تضعك على الصراط، وبهدف ألا تفلت الخيوط منك كقارئ.. لكن الحق يقال إن ذلك قد يزيد من تساؤلاتك وفتح آفاقك في آن معاً. أما آن لي أن أخلع أوجاعي وأستريح. أما اللغة فقد تعاملت غصون مع التسلسل وسلاسة اللغة، التي يقدر على التواصل معها ومن خلالها كل من يقرأها، شريطة أن يحظى القارئ ببعض من أفق مفتوح، وخيال شاسع، ورغبة في الوصول إلى اليقين والحقيقة. توظف الكاتبة الحرب القذرة على غزة نهاية 2008، وما تعرض له القطاع من تدمير وحرب إبادة، لتسير جنبا إلى جنب مع مرض بطلة القصة رهام، وانتظارها الموت في أية لحظة. ألقى الموت بظلاله على مجريات الرواية، مما يجعل القارئ يتعاطف مع رهام ومعاناتها مع المرض، ويشفق على زوجها وليد والعبء النفسي الملقى على عاتقه، وحيدا معها، تسير رواية «في البال» وفق خطين يتقاطعان، الخطان هما أحداث غزة والهجوم الإسرائيلي الهمجي، وعلاقة اثنين بعضهما ببعض في عمر الأربعين، والصلة التي تربطهما بأحداث غزة وما تعرض له القطاع من تدمير. ويمكن القول إن نقاط اللقاء بين خطي الرواية.. أي غزة وحب البطلين، تمثلت أكثر، عند الحديث عن مرض السرطان واحتضار بطلة القصة رهام، وانتظارها الموت في أية لحظة. فكأن الكاتبة أرادت تشبيه هذا المرض بكره الإسرائيليين. رهام تعيش مع ما يحدث في غزة رغم اغترابها، وتواجه سرطان الثدي وترفض العلاج، فالعلاج لن يطيل في حياتها لكنه سيؤخر النهاية قليلا. وجدتها تنفرد بشاشة التلفاز تتابع أخبار المظاهرة، تحتضن أحشاءها وتئن بصوت خافت، وما عدت أدري إن كان أنينها بسبب ما يتآكل من جسدها تحت أنياب هذا السرطان اللعين، أم بسبب ما يتآكل من جسدها تحت ركام ذاك الدمار الوحشي، وكلاهما موجع جدا يا غصون...! كانت تشاهد مايحدث لغزة ومواجهتها مع السرطان الصهيوني، الذي يحاول أن يستأصل وجود غزة وكيانها. لم تصف غصون البطلة بصفات الجمال التي اعتدناها في القصص، بل ثمة ملامح عادية وتشوه بسيط في الرجل، ليتلاقى شخصان لا يتفقان في الطباع ولا في الآراء، بل بالإحساس بأنهما يكملان بعضهما بعضا بشيء ما؛ يصعب تحديده، وكأن لقاءهما ضرورة لكليهما. وهكذا يتداخل الماضي بحاضرهما وأحداث غزة، ثم مرض السرطان الذي أرادت الروائية لفت الانتباه إليه. وكانت بعض مقاطع وصف الاستئصال والعلاج الكيميائي، والألم الذي يعانيه المريض ويتحمل آثاره حتى الرمق الأخير، من النقاط الملموسة والمؤثرة بعمق في نفسية القارى للرواية. انطباعي كقارئة للرواية أحسست بها وأحستني، وكأنها عقاب رباني، لخلجات امرأة وصراعاتها الداخلية وصبرها، وصمتها، وكل الصفات الأخرى المشابهة التي تجعل المشاعر في داخلها، والأفكار والأحلام وحتى الشكوى، والروح التي لا يقوى أن يحملها جسد وهي الأنوثة المتفوقة بكل الحياة ستبقى آسنة تتعفن، حتى تفقد كل جمالها وحقيقتها وأصالتها، ربما لهذا السبب حين تكتب المرأة تجعل من الكتابة لعبة للبوح، وتحريك كل المشاعر الساكنة. حين يتم إزالة عضو بالغ الأهمية من جسد أي امرأة، يخط ألم طويل؛ يجعلها تتساءل بأسى عن جدوى حياة امرأة، بدون هذا العضو في مسألة وجودها كأنثى، ستفكر حينها بصوت عال: يبدو أني سوف أفشل تماما في التفكير في شيء جميل من الآن فصاعدا ستشعر بالحقد على كل شيء، الظروف، القدر، وعلى ذاك المرض البشع، اللئيم الذي يطعنها في صميم أنوثتها... وهي تتخيل تضاريسها القادمة: إمرأة ببقعة مطرزة على الأيسر من صدرها، وتتساءل: لن يكون بإمكاني إرضاع طفلي إن رزقت بطفل؟ وأيضا حين تقول: البرودة سوف تتفشى يوما عن يوم في جسدي وفي الغرفة.. برودة حقيقية. سترتعش.. من الخوف ومن الوحدة..، الخوف والوحدة، هاجس يمكن أن يقلق امرأة فقدت ثديها. في مجتمع تحكمه معايير تصنيف رهيبة، يمكن أن تصنف ببرود امرأة وتعزلها عن دفء الحياة. إن المرأة حين تكتب تستطيع أحيانا أن تنتصر ليس فقط لذاتها أو لجنسها، ولكن تنتصر للإنسان.. وهذا ما تفعله غصون، وقد يكون ما تكتبه النساء يحمل خصوصية ما، غير أن ذلك يرجع بالدرجة الأولى لخصوصية تجارب المرأة، وخبراتها في الحياة التي تختلف في أوجه كثيرة عن تجارب الرجل وخبراته، فالتكوين الاجتماعي للمرأة هو الذي يؤثر على خصوصية تجاربها، وليست الكتابة هي التي تفرض عليها ذلك. ولكن هل عبرت عن عمق العلاقة بين المرأة والرجل في مجتمعنا؟ أعتقد أن الرواية عالجت مشكلة تواجهها الأنثى في مجتمعاتنا بقوة. هي رواية بينت امرأتان في امرأة، فسخرتها الكاتبة للتعبير بشكل صريح عن مواقف واضحة، تمثلت في إظهار التناقضات في امرأة، داخل مجتمع، يكبت التحرر داخلها، وبتصوير شبه مبالغ للصراعات الداخلية التي تحسها المرأة، حيث أن بطلة الرواية تسعى لتحرير جسدها من العقد، وسأصفها بأنها عزفت على أوتار الجراح الحقيقية والسرية داخل كل امرأة. ولكني أقول: أن جل ما تطرحه من أفكار، بقدر ما قد تبدو لنا ضئيلة وتفصيلية، فهي على قدر بالغ الأهمية في حياة النساء. لا أحد غير امرأة واعية قد يفهم معاناة امرأة أخرى، لا أحد يمكن أن يفهم ما يمكن أن يفعله الصمت بالمعنى المقابل للبوح بالمرأة، غير امرأة من جنسها. أسئلة عديدة تراودها لتبقى أسئلة بلا إجابات؟ هل سيبقى يحبني كما أنا، وكيفما صرت، ولن يغير أي مرض من حبه لي؟ هل بإمكانه التعايش مع جسدي الآن؟ هل يستطيع أن يعتاد على هذا المنظر؟ ربما أجابت غصون حين كتبت «شعرت بأني غريب عن نفسي وعن تلك المرأة التي تنتظرني في البيت، وأني ربما أعيش مؤقتا حياة رجل آخر، رجل غاب فجأة وكلفني بمتابعة حياته، أو ربما حياة رجل مثقل بالمتاعب والهموم اختار أن يفقد ذاكرته، فألقى بها في حضني وفر هاربا...». إذا هي كتابة البوح الأنثوي الواعي. في ظل الهيمنة الذكورية التي دفعته لأن يقول لها: عاهتك... بدون أن يفكر في هذه الكلمة التي تطعن مشاعر المرأة، فالرواية الآن من خلال هذا المقطع لماذا ترين مرضك هو نهاية العالم؟ اشكري الله فعاهتك غير ظاهرة للناس على الأقل، وبالإمكان إخفاؤها تحت الملابس، فماذا يفعل الذين فقدوا ساقا أو ذراعا؟ صارت تنتحب مرددة: لأن عاهتي كما تسميها.. عاهتي لا تخص الناس، تخصنا نحن هل إنطلت عليك خدعة حمالة الصدر؟ تذكر أنها كذبة، أنا وأنت من نعرف ما وراءها.. إنها تحمل ثديا من السيلكون. ويبقى ممتدا ظل الهيمنة الذكرية التي دفعته لأن يقول لها أريد الاحتفاظ بابتسامتك! ظننتها حالة من البوهيمية، غير أنه تابع بإصرار: أرغب في تحنيط ابتسامتك لتخضع لرغبات أنانية ممن تحب ليبقى يتذكرها. مرعبة القصة التي حبكت خيوطها الروائية غصون الرحال في البال، ورائعة بما فيها من قسوة، قسوة الحقيقة ونزق (المبدع !!!) وتخيلاته المفزعة. تضع الكاتبة روايتها على لسان رجل بصورة أساسية، ورواة وشخصيات يعيشون المنفى، وهناك انطباع لازمني في آخرها، يوحي بأن الأدوار مقلوبة، وبأن الفقيد بالسرطان هو رجل وليس امرأة، لكن الكاتبة اختارت أن تجعل البطلة تصاب بالمرض والرجل هو الراوي، فلعل ذلك التعلق بشعر محمود درويش هو الذي أوحى لها الفكرة، وقد استشهدت به في أكثر من موضع. الرواية جميلة وعميقة ومؤلمة معا، وفيها الكثير مما يقال ويكتب عنه ويتم تحليله، وتهجس بالكثير من البوح الموازي لخصوبة النص. * صدرت الرواية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2010.