لعلّ أبرز ما تميّز به مسلسل «باب إدريس» بصفته عملاً تاريخياً، هو تركيزه على الهامش بقدر تركيزه على «المتن» التاريخي، على خلاف ما يُكتب التاريخ عادة أو يتمّ العمل عليه. إنها المرّة الأولى يجرى التطرّق فيها إلى حقبة الانتداب الفرنسي للبنان والاستقلال من ثمّ، بعيداً من الكليشهات التي استُنفدت واستُهلكت عبر الأعمال الفنية، السينمائية والمسرحية والتلفزيونية، وبعيداً من المقولات الجاهزة والرائجة. شاءت الكاتبة كلوديا مرشليان والمخرج سمير حبشي أن يخوضا هذه الحقبة المثيرة من زوايا أخرى، غالباً ما تُهمل أو تُهمّش، فاختلقا وقائع وشخصيات وعلاقات يمكن أن تكون واقعية تماماً ويمكن أن تكون متخيّلة ولكن في سياق تاريخي. فالانتداب الفرنسي والاستقلال كانا أشبه بذريعتين لديهما لشبك علاقات إنسانية ونسج أحوال وجدانية ليست بغريبة عن جوّ الحقبة وإن ظهرت على هامشها. وبدا موفّقاً جداً اختيار «البانسيون» البيروتي ومقهى الحاج نقولا المتاخمين لمنطقة «باب إدريس» في قلب بيروت، كحيّز مكاني، تجرى الأحداث فيه ومن حوله في آن كما تنطلق منه. وإذا كان «البانسيون» يعني العائلة التي استوحاها المسلسل، العائلة في ما عانت من مآسٍ شخصية كبيرة وصغيرة، فإن المقهى كان بمثابة المحور الذي يجمع فئات المجتمع البيروتي، المناضلين ضدّ الانتداب ورموز الانتداب أنفسهم. وغدا «باب إدريس» المكان المفتوح على «البانسيون» و «المقهى» والقائم بينهما، رمزياً وسياسياً ونضالياً... إنها المرّة الأولى إذاً تُعالج فيها مرحلة الانتجاب والاستقلال في طريقة ليست بالتوثيقية أو التأريخية تماماً. التوثيق هنا مفتوح على المخيّلة الخصبة القادرة على معاودة صنع الواقع وليس تقليده أو محاكاته. لقد ضجر جمهور التلفزيون في لبنان من الصيغ المشهدية التي ظهر فيها تاريخ الاستقلال: بشارة الخوري ورياض الصلح وقلعة راشيا وإلى ما هنالك من معطيات يعرفها حتى التلامذة في المدارس. في «باب إدريس» أعادت الكاتبة والمخرج قراءة الحقبة بعين «انطباعية»، إذا أمكن القول. دخلا حميميات الأشخاص وحياتهم العاطفية والوجدانية، سواء كانوا جنوداً محتلّين أم مقاومين للاحتلال أم مواطنين عاديين عاشوا المرحلة وشهدوا عليها. هكذا سُمح لجنود الاحتلال أن يقعوا في الحبّ وأن يكونوا صادقين في حبهم، على رغم قسوتهم وسلطتهم التي لا ترحم. المحتلون أو الأعداء بشر ويستطيعون أن يحبّوا ويخيبوا لا سيما إذا كان من يحبونه في الجهة الأخرى. الكولونيل والكومندان أحبّا وخابا وأدمعت عيونهما. الكولونيل أحبّ حبيبة المناضل راشد الذي يجمع بينهما العداء المستميت، أما الحبيبة شمس التي وقعت في حبّ راشد فهي حاولت أن تتسلّل «عاطفياً» إلى حياة الكولونيل الفرنسي في ما يشبه مهمة التجسّس لتسرق المعلومات التي تفيد الثوار وفي طليعتهم حبيبها. ووفّقت الكاتبة والمخرج في جعلها راقصة في إحدى حانات بيروت، فهذه ظاهرة يفترضها العمل الدرامي لا سيما إذا دار في أجواء الانتداب الغريب... أما الكومندان فانتهى به حبّه إلى الجنون والهذيان مثله مثل المرأة التي أحبّها (نجلا) والتي دفعها إلى خيانة زوجها (زكريا) وقد حملت منه ومات الوليد (الفرنسي الأب) خطأ برصاص الجنود الفرنسيين أنفسهم. وهاتان الشخصيتان، الكومندان والعشيقة نجلا، مثّلتا إحدى المآسي التي تنجم دوماً في زمن الحروب، ولو أن الاحتلال الفرنسي لم يشهد حرباً عنيفة. وبدا الكومندان كأنّه جاء إلى لبنان حاملاً في داخله أزمته النفسية وانهياره وكان يكفيه أن يقع في حب نجلا حتى ينفجر وينهار ويطلق النار على جنود بلاده ثم يقتل على يد الكولونيل. إنه الاحتلال يتآكّل من الداخل بينما هو في الظاهر متسلّط وقويّ. هذه المقاربة الجميلة والعميقة كسرت الفكرة التي يكوّنها أهل الوطن عن المحتلّين، القساة والمتعجرفين. وكم بدت رائعة تلك اللقطة التي جمعت بين الكولونيل والمناضل راشد أمام جثة حبيبتهما المشتركة شمس وهي راقدة في التابوت. هذا مشهد شكسبيري بامتياز، في ما يحمل من صراع داخلي لم يطفئه حتى الفقدان المريع. إنّه الحبّ المأسوي الذي يجمع ويفرّق في آن، بين المناضل وعدوّه. تصعب الإحاطة بالوقائع والأحداث والأحوال التي شهدها المسلسل بحلقاته الثلاثين. ف «البانسيون» بذاته يفترض التوقف أمامه، في ما حوى من شخصيات و في ما انطلق منه من علاقات «أهلية» وفرنسية، متقاطعة ومتداخلة. إنه واحد من المحاور الرئيسة في المسلسل. فالزوج الذي تخونه زوجته مع الكولونيل هو ابن هذا «البانسيون»، والفتاة علا التي يقع في حبها الجندي عمر الفرنسي الجنسية، اللبناني الأصل هي ابنة هذا «البانسيون» أيضاً، وكذلك المناضل راشد الذي كان المحتلّون يطاردونه مع جماعته الثوريين. ولا تُنسى بدرية ابنة صاحب «البانسيون» التي عاشت مأساتها الشخصية في وسط الأزمة الوطنية العامّة، مثل سائر الشخصيات، وقد حملت سفاحاً من حبيبها الذي خانت معه زوجها المعقد، ولم يلبث هذا الحبيب أن قتل على يد أهل الزوج... مآسٍ صغيرة وشخصية تعيشها هذه الشخصيات التي وفّقت كلوديا مارشليان في ابتداعها وخلقها وقد جسّدها المخرج سمير حبشي على الشاشة جاعلاً إياها من لحم ودم، شخصيات تعاني وتتدمّر وتمرض وتجن وبعضها يموت. ومثلما برز مثلث الكولونيل – راشد – شمس، برز أيضاً مثلث الكومندان – زكريا – نجلا. لكنّ الكومندان هنا هو الذي يموت، بينما نجلا هي التي تجنّ بعدما عاشت خيبتها الكبيرة المتمثلة في موت وليدها ثم في سقوط أوهامها «الفرنسية» (أو حلمها الفرنسي). أما زكريّا فيعيش حالاً من الانفصام بين حبّه الشديد لزوجته الخائنة، التي لن يلبث أن يغفر لها ويسامحها وبين رغبته في بناء أسرة. وثمة لقطة لا يمكن تجاهلها لقوّة تأويلها: عندما تنطلق صرخة الطفل الذي وضعته بدرية، وهو ابن زنا في المعنى الشرعي، تتوجّه الكاميرا إلى العلم اللبناني الذي كان ارتفع للتوّ لحظة إعلان الاستقلال. هل هو الاستقلال الذي ولد وكأنّه غير شرعي أم إنّ صرخة الطفل، أياً تكن سلالته، هي التي ستصنع المستقبل؟ لم تحضر السياسة كثيراً في مسلسل «باب إدريس»، السياسة في مفهومها المعقّد والمركّب والشائك، وهذا من حسنات المسلسل. فهو لم يهدف إلى قراءة هذه الحقبة سياسياً بقدر ما سعى إلى قراءتها إنسانياً ووجدانياً. هكذا غابت التفاصيل اليومية والأخبار وإطلالات الزعماء والرؤساء وأسماء الأحزاب وحضر المواطنون الحقيقيون، المناضلون والثائرون والمتظاهرون، وحضر الشارع بحركته العفوية وإيقاعه الحيّ... كان في إمكان الكاتبة والمخرج أن يحوّلا مقهى الحاج نقولا إلى خلية تضج بأهل السياسة والصحافة لكنّهما شاءا هذا المقهى جزءاً من المشهد العام. لكنّ حال «التسامح» أو «التعايش» الطائفي في المسلسل بدت على شيء من المبالغة، فالمسألة الطائفية كانت حينذاك مطروحة بإلحاح وكان اللبنانيون منقسمين، مسيحيين ومسلمين، في نظرتهم إلى فرنسا والانتداب الفرنسي. أما الممثلون في المسلسل فيستحقون مقالاً على حدة: نقولا دانيال، عمر ميقاتي، مجدي مشموشي، رضوان حمزة، تقلا شمعون، يوسف الخال، بيتر سمعان، نادين ن. نجيم، يوسف حداد، كارلوس عازار، جويل داغر، نزيه يوسف وسواهم. هؤلاء الممثلون أبدعوا كعادتهم في الشخصيات التي تلبّسوها وأدّوها ببراعة وبدوا كأنهم جميعاً يتبادلون إيقاعات أدوارهم، يأخذ بعضهم من بعض ويعطي بعضهم بعضاً. وكانت الممثلة ديامان أبو عبّود مفاجئة في أدائها دور شمس، هي المقلّة في إطلالاتها التلفزيونية. وقد خلقت من شخصية شمس ثلاث شخصيات متوازية ومتداخلة: شمس الراقصة، شمس الجاسوسة التي توقع الكولونيل في حبها، شمس العاشقة التي تسقط مغسولة بدمها. وكم نجح المخرج في جعل وجهها أشبه بالأيقونة، وجهها الذي يفيض بالقسمات والمعاني فيما شفتاها مطبقتان وعيناها تتكلمان. وعندما أطلت في ثوب العروس لا سيما في ظل الثريا المضيئة بدت كأنها تهيئ لموتها الذي جعل منها عروساً في تابوت. سمير حبشي، المخرج السينمائي، نجح كعادته دوماً في خلق مناخ درامي، متخطياً حدود الزمن والمكان، مانحاً الأحداث والشخصيات خلفية جمالية ودرامية ومستخدماً عينه السينمائية المرهفة. وكم بدا هذا المناخ ملائماً لنص الكاتبة كلوديا مارشليان. وهذه البراعة في العمل تجعلنا نغفر للمخرج بضعة أخطاء صغيرة ارتكبت سهواً ومنها مثلاً أغنية إديت بياف التي تعود الى الخمسينات، علاوة على بعض التفاصيل التي كان يجب الانتباه اليها.