التحولات التاريخية في كل من تونس وليبيا نحو إنهاء حكم ديكتاتوري والاصلاحات الدستورية في المغرب نحو مزيد من الديموقراطية وحكم الغالبية الشعبية والاستقرار النسبي في موريتانيا والتوجه الى إرساء دولة القانون، كل ذلك يمهد لإزالة عوائق أساسية أمام علاقات طبيعية بين دول المغرب العربي. وكان ذلك ايضاً يفترض عودة بناء الاتحاد المغاربي على قاعدة جديدة صلبة، بعد عقود من المشاحنات بين دوله دفعت ثمنها شعوبه على حساب تنميتها الاقتصادية وتوقها الى الديموقراطية. وتبدو الجزائر في هذه الصورة بمثابة الاستثناء الذي يعرقل الآثار الايجابية لهذه التحولات على المسار المغاربي، عبر تمسكها بآليات عمل قديمة وسابقة على التحولات الكبيرة في المغرب العربي، وإن كان الشعب الجزائري لا يقل توقاً عن باقي شعوب المغرب العربي نحو حكم رشيد وتنمية مستدامة وحريات سياسية وديموقراطية. ففي الوقت الذي كانت تختمر في البلدان المغاربية طموحات التحول الديموقراطي كان الحكم الجزائري، وهو حكم عسكري ذو واجهة مدنية، يجري التعديلات الدستورية التي تضمن استمرار احتكار السلطة ومنافعها. وفي إطار هذا السعي، اعتمد آلية حكم تبقي على حد من التوتر مع الجيران، في افتعال لعصبية تهدف الى تجميع اوراق داخلية في مواجهة خطر قادم من الخارج. وهذا ما أبقى الحكم منغلقاً على أي تحول ديموقراطي حقيقي رغم تعددية حزبية صورية واعتماد اقتراع شعبي معروف النتائج سلفاً. وفي الوقت نفسه لم يتمكن من الانتقال الى علاقات طبيعية مع الجوار. وفي هذا الاطار يمكن فهم الموقف الجزائري من مسألة الصحراء الغربية، وانعكاسه السلبي جداً على العلاقات مع الرباط. اذ رغم كل اعلانات ان المسألة اصبحت في عهدة الاممالمتحدة، لا يزال الاملاء الجزائري للمواقف على جبهة «بوليساريو» وتشجيعها على التشدد، عبر احتضان قادتها، يعرقل المسعى الاممي في حل المسألة. ورغم اعلانات فصل هذا الملف عن العلاقات الثنائية، لا تزال الجزائر ترفض فتح الحدود مع المغرب ولتبقى التبادلات الرسمية في حدودها الدنيا. وفي الوقت الذي تبرر الجزائر دعمها ل «بوليساريو» بموقف «مبدئي» من حق تقرير المصير للشعوب، تراها تتحفظ عن تمتع الشعب الليبي والتونسي بهذا الحق. فالحكم الجزائري لم يعترف حتى الآن بالمجلس الوطني الانتقالي، بعدما اشتبه به في تمرير اسلحة ومقاتلين الى قوات القذافي قبل السيطرة على طرابلس. واذا كان يمكن ان يبرر استضافة افراد من عائلة القذافي ل «اسباب انسانية»، فان تذرعه بموقف الاتحاد الافريقي لعدم الاعتراف بالحكم الليبي الجديد يعكس موقفاً سلبياً من هذا الحكم، مع ما سيتركه ذلك من تأثير سلبي في العلاقات الثنائية مستقبلا. مسألة أخرى يثيرها الحكم الجزائري بالنسبة الى الوضع الليبي، وهي «المخاوف» من حركات «ارهابية» ليبية قد تتسلل الى الحكم في طرابلس او تدعم حركات ارهابية جزائرية، والمقصود بها «القاعدة في بلاد المغرب العربي». ولو ان هذه المسألة لم تكن سوى ذريعة من أجل افتعال مشكلة مع الحكم الليبي الجديد لكانت لاحظت الجزائر انه على امتداد الشهور الستة الماضية لم يظهر في ليبيا أي تنظيم ارهابي رغم انتشار السلاح وجبهات القتال، ولكانت قرأت تصريحات جميع المسؤولين الليبيين السياسيين والعسكريين عن التمسك بدولة القانون والتعددية والديموقراطية. واكثر من ذلك، عندما كان الثوار اللبييون يركزون قتالهم على كتائب القذافي كانت الجزائر مسرحاً لعمليات ارهابية دامية وفي اكثر من مكان، ما يعني ان الارهاب الذي يضرب في هذا البلد مركزه في الداخل وليس في الجوار. اما مكافحة الارهاب على المستوى المغاربي فهذه مسألة لن تستقيم في ظل استمرار التوتر وتبادل الاتهامات. لا بل لا يمكن الحديث عن عمل مشترك في مواجهة هذا الارهاب من دون علاقات جيدة وثقة تامة بين هذه الدول، ما يتيح تنسيقاً أمنياً وتبادل معلومات ومتابعة الخلايا ومصادر تمويلها وحركة عناصرها. هكذا يبدو اليوم بلد المليون شهيد من أجل الاستقلال والحرية في موقع الاستثناء ويعرقل مسيرة البناء المغاربي، بعدما أبدى مخاوف وتحفظات عن التحول الديموقراطي في بلدانه.