لا يخلو تاريخ المفاوضات السرية والمكشوفة بين المغرب وجبهة بوليساريو من تلازم بين مسارين، يتداخلان أحياناً الى حد التشابك ويتباعدان في أخرى الى درجة القطيعة. ومنذ المفاوضات الأولى التي دارت في باماكو في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي في حضور قياديين من بوليساريو ومسؤولين مدنيين وعسكريين مغاربة، حرصت الرباط على إبلاغ الجزائر في فترة قطيعة ديبلوماسية، انها تفعل ذلك من اجل إيجاد مخرج لنزاع الصحراء يعبّد الطريق أمام مصالحة إقليمية أوسع. والحال ان مسؤولين جزائريين رفيعي المستوى أشعروا بدورهم قيادة الجبهة انهم بصدد الدخول في مفاوضات مع الرباط، لكنها لن تكون على حسابهم. هذا التلازم الذي امتد لأكثر من عقدين ضمن الصيغة الفضفاضة للأطراف المعنية بنزاع الصحراء، سيجد له الوسيط الدولي السابق جيمس بيكر وصفة أقرب الى إرضاء المشاعر والتأويلات، وتحديداً حين جمع المغرب وجمعية بوليساريو كطرفين مباشرين الى جانب الجزائر وموريتانيا كمراقبين. فقد أدرك انه بالقدر الذي يصعب تحديد المشكل كنزاع ثنائي بين المغرب والجزائر، فبالقدر ذاته لا يمكن إلغاء خلفياته وتداعياته الإقليمية، وأقربها ان الجزائر تؤوي مخيمات اللاجئين الصحراويين في تيندوف الواقعة تحت نفوذها، عدا ان الترتيبات التي أُنجزت لإقرار وقف النار والبحث في تسوية سلمية لم يكن وارداً ان تتحقق من دون موافقة الجزائر ودعمها. الراجح ان صيغته تلك امتد نفوذها حتى بعد استقالته، إذ حافظ الموفدون الدوليون الذين تسلموا الملف على الإطار العام للمفاوضات، مع فارق جوهري يكمن في ان مقاربة بيكر كانت اجتهاداً شخصياً ضمن مساع بذلها لإحراز التقدم في التسوية السلمية، فيما أصبحت الآن تحت مظلة قرارات مجلس الأمن الذي يتبنى المفاوضات منهجية لتكريس ما اصطلح عليه ب «الحل السياسي»، ذلك انه أمام المأزق الذي وصلت إليه خطة الاستفتاء الذي أقرته الأممالمتحدة في مطلع 1991، وأمام الضرورات التي حتمت استنساخ القرارات الدولية السابقة، بات مفهوم الحل السياسي إطاراً للتجاذب. أقصى ما كانت تطمح إليه جبهة بوليساريو في صراعها مع المغرب الذي بدأ في عام 1975 - مع ان قضية الصحراء كانت مطروحة في الأممالمتحدة في سياق نزاع مغربي – إسباني منذ خمسينات القرن الماضي – ان يتم الاعتراف بها طرفاً مباشراً، لذلك تعمدت الرباط على امتداد جولات من المفاوضات السرية والمعلنة، كما حدث في باماكو ومراكش وطنجة أن تدرج تلك اللقاءات في إطار دعوتها بوليساريو الى العودة الى المغرب، ولم يفت الملك الراحل الحسن الثاني ان يعلن يوماً في ذروة حرب الصحراء انه لن يمانع في تعيين رئيس وزراء للبلاد من أصول صحراوية. ويحتفظ الأرشيف الرسمي المغربي بخطاب سجله الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي خلال زيارته الأولى الى الرباط بعد انفراج علاقات البلدين في ثمانينات القرن الماضي، دعا فيه قياديي بوليساريو الى تأسيس حزب سياسي معارض في المغرب، غير ان ذلك الخطاب لم يبث أبداً. منذ البداية، كان المغرب يرفض المفاوضات مع بوليساريو من منطلق انها لا تحظى بتمثيل الصحراويين كافة، وساعده في ذلك ان خلاصات لجنة تحديد الهوية لاختيار السكان المؤهلين للمشاركة في استفتاء تقرير المصير منحته الغالبية بحوالى 45 ألف نسمة. في مقابل حوالى 30 ألفاً يقيمون في مخيمات تيندوف جنوب غربي الجزائر وحوالى عشرة آلاف موزعين في موريتانيا. غير ان هذا الرفض الذي كان يستند الى مرجعيات قانونية وسياسية مغربية، سرعان ما تحول الى صيغة حوارية بين أبناء الوطن الواحد وفق الطرح المغربي، عززه ان من بين الوفد المغربي المفاوض يوجد رئيس المجلس الاستشاري الصحراوي خلي هنا ولد الرشيد الذي ينتسب الى قبيلة الركيبات كبرى مكونات المجتمع الصحراوي. ولم تكن بوليساريو لتقبل الأمر الواقع لولا ضغوط الأممالمتحدة التي تركت للأطراف حرية اختيار وفودها الى المفاوضات، فيما اكتفت الجزائر وموريتانيا بحضور جلسات الافتتاح والاختتام الرسمية على امتداد الجولات الأربع. ارتبطت مبادرات الرباط في الانفتاح على بوليساريو بمعطيات إقليمية، من ذلك ان اللقاء الذي جمع الراحل الحسن الثاني وقياديي الجبهة في مراكش عام 1988 تزامن وخطوات الانفراج التي عرفتها العلاقات بين المغرب والجزائر. فقد أسفرت القمة التي جمعت ملك المغرب والرئيس الجزائري السابق الشاذلي بن جديد وقتذاك عن التزام الطرفين تمديد العمل بمعاهدة ترسيم الحدود وحسن الجوار التي كانت من بين أسباب انزعاج الجزائر، كون البرلمان المغربي لم يصدق عليها بعد إبرامها رسمياً. ومهد اتفاق ايفران لكسر الحاجز الزمني بين المغرب وبوليساريو من جهة، وكذا الاتجاه نحو بناء الاتحاد المغاربي في شباط (فبراير) عام 1989، ما اعتبر في حينه محاولة للالتفاف على قضية الصحراء والعمل على إذابة تناقضاتها في الفضاء المغاربي الأرحب. في لقاء ثان استضافته مدينة طنجة حفل بالإشارات الدالة، اجتمع ولي العهد المغربي (الملك محمد السادس) الى قياديي بوليساريو، بتزامن وتخليد الزعامات السياسية في المنطقة المغاربية ذكرى لقاء طنجة لعام 1988 الذي ضم جبهة التحرير الجزائرية والحزب الدستوري التونسي وحزب الاستقلال المغربي بهدف إرساء دعائم البناء المغاربي، وما من شك في ان مفاوضات باماكو قبل ذلك كانت تندرج في نطاق إعداد الأجواء للقمة التي لم تنعقد بين الحسن الثاني والرئيس الجزائري هواري بومدين. إذ ظلت ترتيباتها كما في لقاء باماكو من قبيل ديبلوماسية أصبحت الآن جزءاً من التاريخ. غير ان وقائع لافتة في تجربة الوسيط الدولي جيمس بيكر ستلقي بظلالها على مسار المفاوضات. يروي مصدر قريب من دهاليز المفاوضات التي دارت في كل من لندن وبرلين ولشبونة في مطلع هذا القرن ان بيكر أغلق غرفة المفاوضات الانفرادية وأمسك مفتاحها بيده. ثم نقل عنه القول الى المفاوضين المغربة: انسوا الضم النهائي وأبعدوا عن الأذهان فكرة استقلال الإقليم. وفي خطوة مماثلة أدار المفتاح في غرفة جمعته الى قيادة بوليساريو ردد المقولة التالية: أنسوا فكرة استقلال الإقليم وأبعدوا إمكان ضمه نهائياً الى المغرب. كان لتلك الكلمات وقعها على الأطراف المعنية، ولعلها كانت وراء طرحه للمرة الأولى خطة منح الإقليم حكماً ذاتياً ضمن ما أطلق عليه صفة الاتفاق – الإطار. لولا ان ضغوطاً مختلفة دفعته لمعاودة النظر في خطته تلك، إذ حاول الجمع بين الاستفتاء والحكم الذاتي، ما أدى الى انهيار مساعيه ثم استقالته بعد مواجهة الباب المغلق. إلا ان التطورات المتلاحقة بعد ذلك اقتضت الاتفاق مبدئياً على صيغة «الحل السياسي» للنزاع بعد ان كان يوصف بالحل الثالث ضمن مرجعية «لا غالب ولا مغلوب». الأكيد ان الاقتراحات التي كان بشر بها الوسيط جيمس بيكر اختزلت تباين المواقف وتباعدها في كل مرة كان يلوح فيها ان الحل قريب، فقد طرح أربعة خيارات لتسوية النزاع شملت العودة الى خطة الاستفتاء المنهارة أو الانفتاح على أفق الحكم الذاتي أو النزوع نحو تقسيم الإقليم أو التهديد بسحب الأممالمتحدة يدها عن الملف. بدت تلك الاقتراحات في وقتها أقرب الى امتزاج مواقف الأطراف حيال انسب الحلول التي يمكن ان تلائم رغباتها، طالما ان نزاع الصحراء محكوم بسقف الحل الذي يقبله الجميع، وستبرز في غضون الجدل حول الخيارات الأربعة مظاهر ذلك التلازم، وتحديداً من خلال نشوء أزمة جديدة بين الرباطوالجزائر بسبب ما نُقل من ان خيار التقسيم جاء بمبادرة جزائرية. في تلك الفترة زار الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة مدينة تيندوف التي تؤوي الصحراويين اللاجئين، فيما ذهب العاهل المغربي الملك محمد السادس الى الصحراء معلناً رفضه خيار التقسيم و «عدم التفريط في أي حبة من رمال الصحراء». يتطلب الأمر نزوعاً متبادلاً بين الجزائروالرباط لضبط النفس توج بقمة جمعت ملك المغرب ورئيس الجزائر في نيويورك ثم لاحقاً في القمة العربية التي استضافتها الجزائر، لا سيما ان العاهل المغربي مدد إقامته وبدا ان الطريق شبه سالكة أمام معاودة تطبيع علاقات البلدين الجارين. غير انه، كما في اللحظات التي تنفلت من زمام السيطرة، تجدد إشكال المواجهات الديبلوماسية بين الجزائر والمغرب على خلفية قضية الصحراء ذاتها، ما جعل قمة الجزائر تصبح بدورها من قبيل الفرص الضائعة. وزاد الوضع قتامة تراكم ملفات الخلافات المغربية – الجزائرية إزاء قضايا عالقة. لم تكن تلك القمة الأولى من نوعها، فقد حرص الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة على زيارة المغرب للمشاركة في تشييع جثمان الملك الراحل الحسن الثاني في صيف 1999. ساعد اعتقاد على خلفية تلك الأجواء الودية أن بوتفليقة ومحمد السادس في إمكانهما تحقيق قدر أكبر من التقدم في تسوية خلافات البلدين، كونهما تسلما السلطة في فترة متزامنة بدت ملائمة لنفض الغبار عن التركة الثقيلة التي لا يد لهما فيها. إلا ان أحداث بني ونيف التي وجهت من خلالها الجزائر اتهامات الى المغرب بإيواء نشطاء متطرفين نفذوا هجمات إرهابية في المنطقة الغربية من الشريط الحدودي المشترك، ألقت بظلال قاتمة على مساعي الانفراج، تماماً كما كانت أحداث اطلس – اسني في مراكش في صيف 1994 بمثابة النقطة التي أفاضت كأس الأزمة المتواصلة. تبرز في غضون تلك التطورات مقاربتان، إحداهما تطاول تحسين العلاقات المغربية – الجزائرية في أبعادها الثنائية مع وضع ملف الصحراء بين قوسين، فيما ترى مقاربة رديفة انه يجب طرح كل الملفات على مائدة واحدة، ما يعني إرجاء الحوار الى آجال غير محددة. على واجهتين سيكتنف مواقف المغرب والجزائر مزيد من التناقض، ستبادر الرباط الى طرح فكرة منح إقليم الصحراء حكماً ذاتياً موسعاً. لكنها حين رغبت في وضع السلطات الجزائرية في صورة المبادرة الجديدة ووجهت بالرفض. ولم يتسن للوفد المغربي الرفيع المستوى الذي زار العواصم الدولية والعربية والأفريقية لشرح مضمون خطة الحكم الذاتي ان يجتمع الى المسؤولين الجزائريين. كذلك، فإن الرباط حين سعت الى إلغاء نظام التأشيرة على الرعايا المتحدرين من أصول جزائرية لتسهيل معاودة فتح الحدود، اعتبرت الجزائر أسلوبها بمثابة محاولة لفرض الأمر الواقع. إلا انها رأت المعاملة بالمثل من دون ان يصل الأمر الى فتح الحدود. لم يسعف منطق الفصل بين الإشكالات الثنائية والإقليمية في وضع قاطرة مفاوضات الصحراء على سكة الانطلاق، فقد استضافت مانهاتن في ضواحي نيويورك أربع جولات منذ صيف 2007 آلت جميعها الى مأزق نتيجة تباين المنطلقات والأهداف. وفيما يقول المغرب ان مبادرة الحكم الذاتي تشكل الأرضية الملائمة، كونها تحظى بدعم مجلس الأمن الذي رأى انها تتسم ب «الصدقية والجدية والإيجابية»، ترد جبهة بوليساريو بأن المفاوضات يجب ان تشمل الحكم الذاتي كواحد من ثلاثة خيارات تطاول إمكان استقلال الإقليم أو ضمه نهائياً الى السيادة المغربية. غير انه من السذاجة اعتبار ان كل تلك الجولات التي دامت ساعات عدة توقفت عند هذا التناقض، بدليل ان أياً من المفاوضين لم يقلب الطاولة وإن لم يتحقق أي تقدم. فثمة التزام بين الأطراف المعنية ومجلس الأمن بروح الاتفاق على ان لا بديل من المفاوضات ومن الحل الوفاقي المقبول من الجميع. وربما يكمن التطور البارز في ان القرارات ذات الصلة تمنت على دول الجوار تشجيع الطرفين، المغرب وبوليساريو، على المضي قدماً في هذا النهج، بيد ان الإشكال يكمن في ان دول الجوار لا تتخذ موقفاً موحداً، إن لم نقل انها كما في حال الجزائر وموريتانيا معنية بالمشكل والحل معاً. اللافت في مقولة الأطراف المعنية التي شكلت صيغة فضفاضة منذ طرح ملف الصحراء على الأممالمتحدة في أواخر خمسينات القرن الماضي عندما كانت إسبانيا تستعمر المحافظات الصحراوية، الساقية الحمراء ووادي الذهب، انها مكنت أطرافاً أخرى من الدخول على الخط، وتحديداً إسبانياوفرنسا من خلال جهود الموفد الدولي كيستوفر روس وقبله الوسيط بيترفان فالوم، وإن كان مراقبون يذهبون الى الربط بين اهتمام مدريد وباريس والرغبة في عدم استئثار الولاياتالمتحدة الأميركية بالحل. ويبقى ان الاتفاق – الإطار الذي اقترحه بيكر لناحية منح باريس وواشنطن رعاية الفترة الانتقالية للحكم الذاتي خلال أربع أو خمس سنوات اعتبر مرجعية في هذا السياق، لا سيما ان الغضب الإسباني حيال استبعاد مدريد من رعاية التجربة يصار الى تعويضه اليوم بمشاورات مكثفة تتخذ من العاصمة الإسبانية ملاذاً في تحركات المبعوثين الدوليين. وسبق لرئيس الوزراء الإسباني خوسي لويس ثاباتيرو أن طرح فكرة الحل الكبير من خلال الدعوة الى قمة رباعية تشرك فيها فرنساوإسبانياوالجزائر والمغرب للبحث في تفاصيل الحل المطلوب. ولا تزال مدريد تتوق للقيام بهكذا دور في ظل ما تعتبره حفاظاً على التوازن الإقليمي في علاقاتها مع كل من المغرب والجزائر، وإن كانت تنظيمات شعبية إسبانية تميل الى دعم جبهة بوليساريو، خشية ان يفيد المغرب من إنهاء نزاع الصحراء ويتفرغ للمطالبة بجلاء إسبانيا عن مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين شمال البلاد. الى الآن، لا يبدو ان هناك بديلاً غير طريق المفاوضات، بدليل ان تلويحات بوليساريو بمعاودة حمل السلاح التي تكررت خلال فترات تفصل بين مواعيد المفاوضات لم تكن أكثر من تمارين على حروب نفسية، يضاف الى ذلك ان واقع المنطقة وحساسيتها وتوازناتها لم تعد تقبل العودة الى الصراع المسلح، فقد انتهت حرب الصحراء الى غير رجعة منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي، ليس لأن القوات المغربية أقامت جداراً يصعب اختراقه بالمواصفات العسكرية فقط، ولكن لأن قرار الحرب استبدل بخيار السلم في أفق التحولات التي كرستها نهاية الحرب الباردة. وكذا انشغال عواصم القرار الدولي بالحرب على الإرهاب وتزايد المخاوف من تأثير أي حرب محدودة أو مفتوحة على استقرار منطقة الشمال الأفريقي التي تواجه تحديات الهجرة غير الشرعية وتنامي التطرف وغياب التنسيق بين مكوناتها. سقف المفاوضات التي تراوح مكانها حددته قرارات مجلس الأمن في بلورة إرادة الحل من دون شروط مسبقة، وزادت على ذلك من خلال دعوة الأطراف التزام حسن النية من خلال التعاون الكامل مع الأممالمتحدة. ومن أول وهلة يبدو أن الأمر يتعلق بشروط موضوعية للمساعدة في تقريب وجهات النظر، إذ كما سيكون مطلوباً من جبهة بوليساريو ان تنسى فكرة إقامة «الجبهة الصحراوية» المعلنة من طرف واحد في عام 1976، سيكون على الرباط ايضاً ان تنسى صيغة الضم النهائي الكامل. ذلك ان ما هو أبعد من انتفاء الشروط المسبقة من الأطراف كافة يكمن في الرغبة في بلورة مسار جديد للتسوية. قد يكون هذا التطور من أبرز الأسباب التي حذت بالسلطات المغربية الى اقتراح حل بديل تحت مظلة الحكم الذاتي الذي تقول انه يخضع لمواصفات التجارب الدولية في هذا المجال، عدا انه من وجهة نظر يعكس ميولاً نحو بلورة خيار ديموقراطي يتيح للسكان الصحراويين المقيمين والقادمين من مخيمات تيندوف تدبير شؤونهم المحلية بكل حرية واستقلالية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وتحديداً من خلال إقامة برلمان منتخب تنبثق منه حكومة محلية ديموقراطية. إلا أن هذا التغيير الذي طرأ على الموقف المغربي لم يحدث ما يوازيه في الضفة الأخرى. وحين دعت جبهة بوليساريو الى مؤتمرها الأخير الذي اختارت عقده في بلدة تيفاريتي في المنطقة العازلة شرق الجدار الأمني ارتفعت أصوات متشددة منادية بالعودة الى القتال، لا سيما ان مجرد الإصرار على التئام المؤتمر في منطقة تحظر الأممالمتحدة فيها أي نشاط مدني أو عسكري كان مؤشراً لجهة التصعيد، وبالتالي لم يكن وارداً في غضون هكذا معطيات ان تسفر جولات مفاوضات مانهاتن عن تغيير جذري في المواقف، وإن كانت قيادة بوليساريو لم تعد تمانع في الاستفتاء على صيغة الحكم الذاتي مع ربطها بخياري الاستقلال أو الانضمام الى المغرب، وهذا الموقف في حد ذاته ان كان لا يستجيب لتمسك الرباط بالبحث في الحكم الذاتي وليس أي شيء آخر غير الحكم الذاتي كما يردد المسؤولون المغاربة، فإنه دفع الموفد روس لأن يبدي المزيد من التفاؤل، اعتقاداً منه ان التقريب بين وجهات النظر ولو في حده الأدنى يشكل جوهر مهمته البالغة التعقيد، فهو يريد ان يبدأ من شيء ملموس في متناول اليد، لذلك اقترح صيغة المفاوضات المحدودة غير الرسمية للعودة الى آخر ما توصلت اليه الجولة الرابعة من المفاوضات. لا يريد المغاربة في ذهابهم الى الجولة الخامسة ان يبدأوا من نقطة الصفر، ولا تريد بوليساريو ان تكرس الخلاصات التي توصل إليها الموفد السابق بيترفان فالوم، أقله لناحية الإبقاء على خيار الاستقلال الذي كان استبعده نهائياً. والحال ان الجزائر وموريتانيا باعتبارهما طرفين مراقبين يختلفان في التعاطي مع الملف. فالجزائر ما فتئت تعلن مساندتها جبهة بوليساريو في تمثيل حق تقرير المصير بصرف النظر عن نتائجه، فيما موريتانيا تعلن صراحة دعمها جهود الأممالمتحدة وترى في الحكم الذاتي مخرجاً للمأزق. وقد حاول الموفد روس ان يدفع الطرفين المراقبين الى موقع جديد في المفاوضات المباشرة، إلا ان مساعيه لم تحقق أهدافها. ثمة مسلك آخر طبع تحركات الموفد روس، ذلك انه أول مسؤول دولي اختار الانفتاح على الأمانة العامة للاتحاد المغاربي بهدف حيازة دعم الاتحاد لجهوده، ولعله أراد من خلال هذا المسعى إقامة توازن في المواقف داخل الدول الخمس المكونة للاتحاد المغاربي، خصوصاً ان تونس والجماهيرية الليبية سبق لهما ان توسطا في الخلافات الإقليمية بين الجزائر والمغرب، وإن كان الاتحاد المغاربي منذ تأسيسه في عام 1989 التزم مسافة أبعد حيال التعاطي وقضية الصحراء، لكن البعد لم يسعفه في إبقاء فعاليته، فكما ان العلاقات بين المغرب والجزائر كبرى دول الاتحاد تصدعت نتيجة المواقف المتباينة، فإن الاتحاد المغاربي كان مآله التعثر بسبب تداعيات القضية ذاتها منذ عام 1994 تاريخ انعقاد آخر قمة مغاربية. بعيداً من مشاغل منطقة الشمال الأفريقي تبلورت دعوات أوروبية وأميركية لإنهاء نزاع الصحراء، وشكلت في أبعادها الاستراتيجية تحولاً لجهة اعتبار النزاع قضية يجب تجاوزها. فمن جهة ركزت جهود فرنسية في نطاق التبشير بمنظومة الاتحاد من اجل المتوسط على ضرورة تنقية الأجواء في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط لدمجها في المسار الجديد، خصوصاً ان الاتحاد يركز على الملفات الاقتصادية والتجارية التي تتطلب الاستقرار والأمن والتعايش، ومن جهة ثانية، ترغب الإدارة الأميركية الجديدة في إحياء مشروع الشراكة الاستراتيجية مع بلدان المغرب العربي، والمفارقة ان هذه الجهود الآنية من وراء البحر المتوسط والساحل الأطلسي لم تعد توازيها جهود أخرى قادمة من الشرق، فقد جربت عواصم عربية متنفذة القيام بوساطات، لكنها لم تعد مقتنعة بأن أي وساطة يمكن ان تحقق أهدافاً في حال لم تكن الأطراف المعنية راغبة بذلك وقادرة عليه.