من بين دواوين الشاعر والروائي الفرنسي الكبير لويس أراغون، ثمة ديوانٌ يجهله معظمنا ويحمل عنوان «متحف غريفان». وسبب هذا الجهل هو نفاد نُسخ هذا الكتاب منذ خمسينات القرن الماضي ووقوعه في طي النسيان على رغم أهميته الشعرية والنقدية الكبيرة. وهذا بالتأكيد ما دفع حديثاً دار Le Temps des Cerises الباريسية إلى إعادة نشره مرفقاً بمقدمة للشاعر الفرنسي ومنفّذ وصية أراغون، جان ريستا. الديوان عبارة عن قصيدة واحدة طويلة كتبها أراغون عام 1943، أثناء الاحتلال النازي لفرنسا، ونشرها في العام ذاته تحت اسمٍ مستعار هو فرنسوا لا كولير، قبل أن يعاود نشرها عام 1946 لدى دار Minuit فيضيف عليها ثماني قصائد غير منشورة من قبل ويتحفها بمقدمة نقدية طويلة (نحو 30 صفحة) بعنوان «الأسماك السود أو من الواقع في الشعر» تشكّل مرافعة في غاية الأهمية عن الشعر الملحمي والملتزم وضرورته في ظرفٍٍ وطني مأسوي كذلك الذي كانت تمرّ به فرنسا آنذاك. والطبيعة الظرفية لقصيدة «متحف غريفان» هي التي تفسر إهمالها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، من دون أن تبرره. فأراغون تمكن فيها من تحقيق إنجازين كبيرين على الأقل: الأول هو إثبات خطأ جميع الذين ادّعوا انعدام الحس الملحمي لدى الشعراء الفرنسيين، منذ «أغنية رولان»، بكتابته قصيدة ملحمية بامتياز، إن على مستوى طولها (أكثر من 550 بيتاً) أو على مستوى مضمونها المُلهِب. والإنجاز الآخر يكمن في توظيف الشاعر في كتابتها مهاراتٍ شعرية تجعلها تتجاوز القصائد الملتزمة الأخرى التي كتبها. وفعلاً، منذ الأبيات الأولى، يضعنا الشاعر أمام مشهدٍ تراجيدي أبطاله «فزّاعات باللباس الرسمي للمحسنين»، وفي الوقت ذاته يعمل على طمأنتنا بقرب نهاية هذا المشهد. فمع أن الواقع فظيع ولكن «في الأفق شحوبٌ غريب»، أملٌ، شرط عدم انتظار الخلاص من الخارج واستيعاب أمثولات «أبطال التمرّد والجرأة الأولين». وبسرعة، تتقاطر تحت أعيننا أسماء هؤلاء الأبطال ومآثرهم بموازاة أسماء العدو الكثيرة (هتلر، موسوليني، بيتان، لافال..) وفظائعه. ويعكس استدعاء أراغون العدو بأسمائه تراجُع الشعر المستور أو الموزع خفيةً آنذاك أمام «الشعر الطارئ» الذي «يأخذ سبيل المقاومة» (بول إيلوار) و «يرفع صراخه أعلى من صخب الحرب». ومع أن القصيدة مشغولة ومشيّدة بطريقةٍ تبدو فيها موجهة أولاً إلى المقاومين الفرنسيين، لكن ما يشدّنا فيها خصوصاً هو نفَسها الشعري وحسّ التناغُم فيها، على رغم طولها، وذلك الاندفاع الذي لا يقاوَم داخلها ويقود قارئها بمتعة كبيرة، وضمن إيقاعٍ ثابت وساحر، حتى فعل الإيمان بفرنسا الذي ينطق به أراغون في خاتمتها. ولفهم هذه القصيدة الظرفية، لا بد من التذكير بالظروف الرهيبة التي أنجبتها. ففي عام 1943، تم «تنظيف» مدينة مرسيليا، بأمر من هيملر، ونعني توقيف ونفي آلاف الفرنسيين، كما تمكّنت المحاكم العُرفية في باريس وليون من قمع المقاومين بسرعة وفعالية كبيرة. وفي هذا العام أيضاً، اكتشف العالم وجود «معسكرات الموت البطيء» في أوشفيتز. أحداثٌ تفسّر الحالة التي كتب الشاعر فيها هذه القصيدة وتمنح نص مقدمته لها نبرةً فريدة لا نجد لها أثراً في أي مقدمة من مقدمات «دواوين الحرب»؛ نصٌّ يستحضر فيه بأسلوبٍ نثري رائع «ألم الوطن بأكمله» وذلك «الصياح الذي يتعذّر تكميمه». وخلف تطوّر أسلوب كتابة أراغون في بداية الأربعينات سببٌ ظاهر هو توقّفه عن الكتابة الشعرية بين عامَي 1934 و1940، ليس لعبوره أزمةً شعرية حادّة، كما ظنّ بعض النقاد، بل للتأمل والقراءة و «العمل على صقل أداة فعّالة»، أي «للبحث عن لغةٍ» جديدة تكون في الوقت ذاته «لغة شعبنا» و»لغةً بأمواجٍ عالية». وفي هذا السياق، نادى بالعودة إلى مصادر الثقافة الوطنية، ليس لتجميد النشيد في أشكالٍ قديمة بل لإعادة ابتكاره بعلو التاريخ. طبعاً، تعرّض هذا التوجه فوراً لنقدٍ لاذع من قبل السرّياليين تركّز على لجوء أراغون إلى أشكالٍ شعرية بالية كالبحر الاسكندري أو البيت المحدَّد الأصوات، وعلى اقتناعه بضرورة البحث عن الوحي في المصادر الوطنية. لكن حين نتفحّص بدقة الشعر الذي كتبه أثناء الحرب، وعلى رأسه قصيدة «متحف غريفان»، يتبيّن لنا أنه ذهب أبعد بكثير من التقليد الكلاسيكي المتري الذي أتقنه بإحكامٍ وعبقرية، بعدما اختبر الشعر الحر في ديوانَي «مضطهِد ومضطهَد» و «هتاف للأورال» ورفض اعتباره قاعدة كل شعرٍ «حديث». ويعكس هذا الأمر انعدام أي قطيعة بين شعره في بداية الثلاثينات وشعره أثناء الحرب، بل تطوّراً وتعمّقاً كبيرين. إذ امتلك الشاعر، في بداية الأربعينات، ترسانة بلاغية سمحت له باستخدام، وفقاً لحاجاته، البحر الاسكندري أو ثُماني المقاطع أو الشعر الحر، بينما بلغ اتقانه للنظم التقليدي حداً مكّنه من الانحراف بقوانين هذا النظم وتجديده. أما المقدمة الطويلة التي خصّ أراغون بها قصيدته فتشدّنا بمدافعته الشرسةٍ فيها عن الشعر الملحمي وعن علاقته المباشرة بالظروف المعيشة التي تأتي به، الأمر الذي يحوّل الملحمة دائماً إلى شعرٍ ظرفي، كما تشدّنا بالمهارات البلاغية الفريدة التي وظّفها فيها للانقضاض على شعر «بول فاليري» وللسخرية من «أولئك الذين يلعبون، تحت عذر التجديد أو التوجه الطليعي، دور رُسُل الشعر الصافي أو الشعر السرّيالي ويحتقرون الشعر الظرفي والمشاعر الوطنية.