إذا سئل الفرنسيون عن أحب شعراء فرنسا المعاصرين إليهم أجابواً: أراغون، وإذا سئلوا عن أحب أعمالهم إليهم، قالوا: ديوانه «مجنون إلزا» وهو ديوان يمت إلى العرب وتراثهم الشعري والحضاري بصلة وثيقة. وقد يظن من يقرؤه منقولاً إلى العربية (وقد نقله إليها الدكتور سامي الجندي قبل ثلاثين عاماً وصدر في بيروت) أن الشاعر وضعه أصلاً بها لفرط استلهامه لحكايات وأشعار عربية، ولتمثله لوقائع وأحداث حصلت في غرناطة العربية الإسلامية قبل سقوطها في عام 49 بسنتين. شاعر ومغن غرناطي، غريب الأطوار، يطوف في أسواق غرناطة، راوياً أيامها الماضية، متحدثاً عن حاضرها الحزين، ومتغنياً بامرأة سلبت لبّه المجنون الغرناطي يستل أراغون صورته من المجنون العربي القديم، قيس ابن الملوّح، ويبني عليها ديوانه. وفي غمار ذلك يسعى لرد الاعتبار لأبي عبدالله آخر ملوك غرناطة. رد الاعتبار لأبي عبدالله لم يكن مهمة سهلة في بدايات القرن الماضي في أوروبا ذات الوجه الاستعماري يومها. يخبرنا أراغون في مقدمته لديوانه هذا، أنه عندما زار مرة موريس بارس BARRES في باريس وذكر له انه ضد الفكرة الشائعة التي تقول ان الملك المغلوب هو دائماً جبان وخائن، استناداً إلى كتابه الغالب للتاريخ، وبالتالي فهو لا يرى ما يراه المؤرخون الاسبان المعاصرون لأبي عبدالله فيه، نظر بارس إلى أراغون مستغرباً وظاناً أن فيه روحاً شريرة، وتمتم: «هذه هي المرة الأولى التي التقي فيها بمن يدافع عن أبي عبدالله»! ولكن أراغون، الشاعر ذا النزعة اليسارية، يفعلها عبر عمل يعتبر قمة عطائه الأدبي. فبعد أربعين عاماً من لقائه بهذا الكاتب الفرنسي الكبير، يكتب أراغون ملحمته الخالدة عن غرناطة ومجنونها وعن أبي عبدالله الذي يراه شخصية مؤثرة تعرضت للأكاذيب، وينصفه. وقد توفي أبوعبدالله بعد أربعين سنة من سقوط غرناطة، أي عام 1532، وهو يقاتل الاسبان الذين نزلوا في مراكش. مات وهو يدافع عن الإسلام حتى نهاية عمره وقد بلغ السبعين. «مجنون إلزا» ليست مجرد ديوان شعري وحسب إنها شعر ورواية في الوقت نفسه. أو لنقل إنها شعر روائي أو رواية شعرية. فهي إذن شعر ونثر. وفيها يجسد أراغون مبدأ يرى أنه لا اختلاف جوهرياً بين الشعر والنثر، كما لا فوارق جذرية بين القصيدة والرواية. ومن هذه الزاوية بوسعنا اعتبار «مجنون إلزا» قصيدة ورواية في آن، الأمر الذي يطلق تحدياً جديداً للمفاهيم السائدة. المؤسف أن ديوان أراغون هذا لم يحدث الأثر المرجو منه عربياً كما لم يجر استلهامه عندنا لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون، رغم جدارته بذلك. فموضوع سقوط غرناطة، ومن قبلها فتوح الإسلام من الهند إلى الأندلس، مروراً بسمرقند وبخارى وبقية الأسماء الحسنى في تراثنا، ظلت مواضيع بعيدة عن التناول الشعري والفني العربي على أنواعه، رغم كرامات هذه المواضيع وقدراتها العجائبية حتى ولو تناولها من ليس كفؤاً لها. وقد ظل الديوان الشعري العربي على حالته المعروفة. فهو يضم اشتاتاً غير مؤتلفة أو موحدة من القصائد: قصائد رثاء وفخر ومدح وغزل وتهنئة بمولود وما إلى ذلك ونأى الشاعر بنفسه عن مغامرة القصيدة/ الديوان، أو القصيدة الواحدة التي هي عبارة عن دفقات مشاعر، أو تجربة وجدانية يضمها ديوان واحد. يقول أراغون في حوار مشهور له مع الباحث الفرنسي فرنسيس كريميو إن الأندليس سحرته. رسا على شاطئها أربع سنوات كاملة وتاه حتى في الصرف العربي ونحوه. وهذا ليس بالقليل من أكبر شعراء فرنسا في العصر الحديث، وهو يدل على قوة تاريخ الأندلس وعلى قوة الغزل الفوري العربي الذي قرأه الشاعر مترجماً إلى الفرنسية. وكل ذلك ينبغي أن يعيد لنا ثقتنا بأنفسنا، ويكون تراثنا مازال مجهولاً وغير مستثمر فنياً منا بعد على النحو المأمول. ولعل من المفيد هنا التذكير بالشاعر اليوناني/ الاسكندري كافافيس، أمير الشعر اليوناني في القرن العشرين الذي لم يكن أدبه سوى إعادة كتابة تاريخ اليونان شعراً. فهل من المبالغة استناداً إلى ما تقدم، اشتراط ان يبدأ الشاعر العربي رحلته بدءاً بدراسة التاريخ؟ قد يقول قائل انه يخشى إذا ما عاد الشاعر مثل هذه العودة إلى التاريخ أو إلى التراث القديم أن يعتقله التاريخ (أو التراث) نظراً لاغراءاته الكثيرة، وعندها قد تتعطل عملية الحداثة المفترضة أو المطلوبة في العمل الشعري.. وليس هذا في محله قطعاً. فلا خير على الحداثة إذا ما بنيت على القديم وانتفعت به، ولا يمتنع أن تنبثق الحداثة من تراث قديم يعاد نشره وتجديده. فآباء الحداثة الغربية، وعلى رأسهم ت. س. إليوت يمجدون التراث أيما تمجيد، ويقولون انه لا حداثة بدونه. فالحداثة ثبنت التراث لا عدوته، وما من حداثة بلا جذور وأصول ومثل هذه الأفكار شائعة في كل كتابات إليوت النقدية المعروفة والمنقولة إلى العربية (تراجع ترجمة ماهر شفيق فريد لأعمال إليوت) ولكن الفرع السوري واللبناني الحديث الذي بحث في الحداثة (مجلة شعر ومجلة مواقف) واحتذى حذو إليوت ورفاقه، تجاهل عن عمد هذا المبدأ الجوهري لفكرة الحداثة لسبب وحيد هو عداؤهم المفرط للتراث العربي الإسلامي ووجوب تجاهله والقطيعة معه. ولكن مثل هذا التجاهل للتراث سرعان ما أُهمل مع الوقت بسبب عدم صحته. ومن أبرز الأمثلة على أن الحداثة غير ممتنعة مع التراث هو الديوان الذي نحن بصدده: «مجنون إلزا» فقد امتاح من رحم القديم وبنى عليه شعراً عالي المقام حداثة وجدة. لم يكن هذا القديم الغرناطي أو الأندلسي أو العربي عالة على الحداثة أو على شعر الحداثة، بل كان عاملاً أحسن إليها ووهبها كرامات لا تحصى مبثوثة في نص شعري كلما تقادم عليه الزمن زاد نضارة وحيوية سواء في الفرنسية الموضوع بها أصلاً أو بالعربية التي نُقل إليها نقلاً فائق الجودة. فيا للتاريخ يشع ويتألق إذا ما تعامل معه الشاعر أو الفنان بكفاءة واقتدار، ويا للحداثة كيف تتأثر إذا اساءت للتراث أو أقامت بينه وبينها خصومة مفتعلة لا مبرر لها سوى السياسة وما إليها.