الأكل، كغيره من عادات وطقوس الشعوب، شاهدٌ على حضارات وهجرات تاريخية نقلت يوميات مئات آلاف البشر من بلدان منشئهم إلى بقاعٍ أخرى لم تبصرها أعينهم من قبل. «الفرموزة» و«المنتو» و«اليغمش» كانت من ضمن شهود العادات؛ فانتقلت أفرانها ومقاديرها وأدوات تحضيرها من آسيا الوسطى إلى غرب الجزيرة العربية. تلك قصة بدأت بعدما نال الاضطهاد الشيوعي للمسلمين في الاتحاد السوفياتي منذ زمنٍ مضى، من المسلمين؛ فهاجرت منهم أعداد كبيرة من بخارى وأذربيجان وطاشكند وتركستان وسواها من الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، متجهين إلى غير بلدٍ ومنطقة؛ حفاظاً على عقيدتهم وتمسكهم بالإسلام، وكانت أعداد كبيرة منهم تيمم شطرها تلقاء ديار الحجاز حيث مكةالمكرمة والمدينة المنورة. وحرص المهاجرون على أداء مناسك الحج والعمرة والزيارة في مكةالمكرمة والمدينة المنورة، واستوطن كثيرون منهم منطقة الحجاز قبل توحيد المملكة العربية السعودية على يد الملك عبدالعزيز - رحمه الله -، وتكاثروا وتناسلوا مع غيرهم من العرب، وتكونت أسر كثيرة أصبحت معروفة في تاريخ الحجاز اليوم. وفي الهجرات المختلفة للإنسان تلعب العادات والتقاليد دوراً كبيراً في تلاقح ثقافته مع الثقافات الأخرى، وكان للثقافة العربية نصيبها أيضاً من الاندماج مع غيرها من الثقافات، ونقل المهاجرون المسلمون من الدول التي كانت تتبع للاتحاد السوفياتي الكثير من العادات والتقاليد في الملبس والمشرب والمأكل وغيرها، واحتضن الحجاز معظم ثقافاتهم التي أصبحت علامات بارزة في المدينتين المقدستين مكةالمكرمة والمدينة المنورة، وأصبح زائرهما يندهش لرسوخ هذه العادات والتقاليد في نفوس السكان، وعندما يريد أن يتناول طعامه فإنه سيكتشف عدداً كبيرا من المطاعم التي تبيع المأكول والمشروب البخاري والتركستاني والطاشكندي، ويلفت انتباهه تسمياتها مثل: «الفرموزة والمنتو واليغمش». وفرضت هذه الأطعمة نفسها على المائدة العربية اليوم، وأصبحت حاضرةً في الإفطار والسحور الرمضاني، ويحرص الحجازيون اليوم على أكلها في كل ليلة من ليالي الشهر الفضيل. يعمل عبدالحي ولي بائعاً في جدة ل«الفرموزة والمنتو واليغمش» ويصطف أمام مطعمه عدد كبير من الناس قبل موعدي الإفطار والسحور لشراء هذه المأكولات، ويقول: «يزداد الطلب على هذه المأكولات في رمضان، ونحرص على تأمين ما يكفي منها للزبائن، وقد تنتهي الكمية ولا نستطيع تلبية كل الطلبات». وعند سؤاله عن تسمياتها أجاب: «هذه التسميات في الواقع متعارف عليها في الدول التي كانت تتبع للاتحاد السوفياتي، ولم تتغير، لكن بعضها يختلف بطبيعة الحال عن بعضها الآخر في المقادير والتحضير؛ فالمنتو يتكون من دقيق أبيض ولحم مفروم خشن وشحم وبصل مفروم وفلفل أسود وكمون، وتحشى به العجينة قبل أن توضع في آلة مخصصة تعمل بالبخار، ومكونة من طبقات عدة مخرّمة، وتدهن الطبقات بالزيت أو السمن ثم يبدأ رَصّ حبّ المنتو غير المتلاصق، وننتظر 45 دقيقة ثم يكون جاهزاً. لكن اليغمش يختلف عن المنتو؛ لأنه ينضج في الفرن بينما ينضج المنتو في البخار مع إضافة قليل من الخميرة والطماطم؛ حتى يحمَّر في الفرن». وأضاف: «تكون طريقة إعداد الفرموزة من خلال مقادير الدقيق ولحم الغنم أو الدجاج أو الجبن مع البصل المفروم، وبعد تجهيزها تُرص في صحن مخصص لها، مدهونة بالسمن مع دهن وجهها العلوي بالبيض ثم تُوضع في فرن مجهّز مسبقاً حتى مرحلة النضج». ويحرص محمد القرني على شراء هذه الأطعمة في رمضان، وأن تكون حاضرة على مائدة الإفطار، ويعلل ذلك بقوله: «هذه الأكلات سهلة الهضم، وخفيفة على المعدة، إضافة إلى لذتها، وخصوصاً إذا كان مَن يُعدها من أهلها، وأنا حريص على أن تكون موجودة طوال الشهر الفضيل مع الأصناف الأخرى». فيما تشير أم أحمد إلى أن مذاقها اللذيذ دفعها إلى تعلم طريقة إعدادها في المنزل مختصرةً بذلك مشاوير شرائها كل يوم من البائع. وتضيف: «جلبنا آلاتها الخاصة من محال أدوات المطاعم، وتعلمت بناتي طريقة إعدادها، وفي رمضان هنَّ مَن يقمن على إعدادها بمفردهن».