طوال المرحلة الماضية ظلّ التجمّع الفلسطيني في سورية في منأى عن الاضطرابات والتحولات السياسية الداخلية والإقليمية، بحيث بدا وكأنّه الأكثر استقراراً بين مختلف تجمّعات اللاجئين في البلدان العربية. معلوم أن اللاجئين الفلسطينيين في هذا البلد لم يتعرّّضوا (منذ 1948) لأي استهداف لكونهم فلسطينيين، على رغم تغيّر حكوماته، وعلى رغم التعارضات التي نشأت بين القيادتين الفلسطينية والسورية، منذ الدخول السوري إلى لبنان عام 1976، والتي بلغت حد القطيعة بعد الطلب من الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مغادرة سورية عام 1983، ووصلت ذروتها بعد توقيع اتفاق أوسلو (1993). هذا لا يعني أن التجمّع الفلسطيني في سورية لم يكن ينظر بعين القلق والحذر الى الخلافات والتجاذبات السورية الفلسطينية، في كل المراحل. على العكس من ذلك تماماً، إذ إن هذه التعارضات غذّت «الوطنية» الفلسطينية عند هؤلاء اللاجئين، وزادتهم تمسّكاً بكيانيتهم السياسية المتمثّلة بمنظمة التحرير، على رغم قلقهم من تهمّش هذه المنظمة وشعورهم بانحسار مكانتهم في المعادلات السياسية الفلسطينية بعد إقامة السلطة في الضفة والقطاع. ولعل من مفارقات وضع التجمّع الفلسطيني في سورية أنه، من الناحية التاريخية، يعدّ الأقل اعتماداً على المنظمة (أي على مؤسساتها ومواردها المالية)، والأقلّ تأثّرا بتوجّهاتها، والأكثر «استقلالية» عن سياساتها، لكنه مع كل ذلك الأكثر تمسّكاً بكيانيّتها، لكأن هذه الكيانية هي بمثابة «وطن» ثانٍ لهؤلاء اللاجئين، أو بمثابة رابطة وطنية لهم. ما تقدم لا يعني أن الفلسطينيين في سورية كانوا يعيشون في نعيم، فغالبيتهم تقيم في مخيمات بائسة، وقد وجد فيها الفقراء من السوريين بيئة طبيعية لسكناهم، تماماً مثلما وجد بعض الفلسطينيين الأغنياء مجالهم في الأحياء السورية الراقية. وهذا يوضح أن اللاجئ الفلسطيني في سورية يعامل مثل السوريين، في كل شيء، في العمل والتنقل والتعليم والسكن والخدمات الصحية، وأنه ضمن ذلك يخضع لما يخضع له السوريون أيضاً، من الناحية الأمنية، بكل ما يترتب على ذلك من إجحافات وتظلّمات، ما جعل من الفلسطينيين بمثابة «سوريين»، بقدر ما بات السوريون بمثابة «فلسطينيين»، بمعنى ما، فالطرفان على حد سواء مجرد «رعايا». ناحية أخرى ينبغي لفت الانتباه إليها بالنسبة الى خصوصية التجمع الفلسطيني في سورية، وهي أن هذا التجمّع يخضع لنوع من وصاية (أخرى) تفرضها عليه بعض الفصائل الفلسطينية، بمعنى انه مع الرقابة الأمنية، فإن هذا التجمع يخضع أيضاً لوصاية سياسية من بعض الجهات الفلسطينية التي تعتقد، خلافاً للحقيقة، بأنها تخدم السياسة الرسمية السورية. وفي الواقع، فإن مشكلة هذه الفصائل تكمن في أنها لم تفعل شيئاً لإقناع اللاجئين الفلسطينيين في سورية بأفضليتها في القيادة والإدارة، بالمقارنة مع سلطة «فتح» في الأراضي المحتلة، ولا في إثبات صدقيتها كمعارضة سياسية، فهي لم تبذل أية جهود للنهوض بأوضاع الفلسطينيين في سورية، ولم تقدم النموذج الأفضل، أو الأكثر جاذبية، في إدارة أوضاع هذا التجمّع، وحتى أنها لم تبنِ أي مؤسسة أو منتدى أو منظمة شعبية أو جمعية! على العكس من ذلك، فقد انحسرت شعبية هذه الفصائل، بين فلسطينيي سورية، وتراجعت فاعليتها كثيراً، بحيث باتت عبئاً على العمل الفلسطيني، وعلى سورية ذاتها. من خلال هذا الإطار، يمكننا قراءة الوضع الفلسطيني في سورية التي تشهد مرحلة مفصلية في تاريخها الحديث، بين استمرار النظام القديم وبين الذهاب نحو نظام جديد يتأسّس على الديموقراطية، وإقامة دولة المؤسسات والقانون والمواطنين. وما يجب الانتباه إليه هنا بداية هو أن الفلسطينيين الذين عانوا الظلم والاضطهاد والامتهان لا يمكنهم في الحقيقة إلا أن يكونوا مع الحرية والعدالة والكرامة في أي مكان ولأي شعب، خصوصاً أن ذلك يخدم قضيتهم الوطنية؛ مهما حاول بعض الجهات (الفلسطينية) بيع مواقف أخرى مغايرة. ويبدو انه بات بديهياً للفلسطينيين (كما غيرهم) أن تحرّر المجتمعات ونهوضها، وتعزّز الحياة الديموقراطية وقيام دولة المواطنين، يمكن أن تخفّف معاناة اللاجئين منهم في البلدان التي يعيشون فيها، كما يمكن أن تقوي قدرة البلدان العربية على مواجهة التحدي الذي تمثله إسرائيل في المنطقة، فضلاً عن أن هذا التحوّل من شأنه فتح أفق جديد في مسيرة التحرر الفلسطيني بتحوّله من مجرد صراع جغرافي، على جزء من ارض، إلى صراع من اجل دولة مواطنين ديموقراطية وعلمانية، بما يعنيه ذلك من الصراع على مستقبل فلسطين كلها بالضد من دولة إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية واليهودية (الدينية). ففي مثل هذا الحل فقط يمكن تحقيق حلم اللاجئين في العودة إلى وطنهم. مع ذلك ومع تصاعد المطالبات الشعبية في سورية بالتغيير والإصلاح السياسيين، فإن اللاجئين الفلسطينيين الذين عدّوا، في مراحل معينة، بمثابة «طليعة» أو «بؤرة ثورية»، تركوا الأمر للسوريين لتقرير مصيرهم، وتدبّر أمر بلدهم ومستقبلهم، فيما يمكن الاصطلاح عليه بصعود «الوطنيات» في البلدان العربية. وربما أن هؤلاء اللاجئين عبّروا في ذلك عن وعيهم لخصوصيتهم الوطنية، فعلى رغم أنهم يعيشون ظروف السوريين ذاتها، ويعانون معاناتهم، إلا أنهم يعرفون، في الوقت ذاته، أنهم لا يستطيعون أن يكونوا سوريين أكثر من السوريين أنفسهم، كما لا يستطيعون أن يكونوا بديلاً منهم، لا سيما بسبب حرمانهم من الحقوق السياسية في البلدان التي يعيشون فيها بمكانة لاجئين. وبالنظر إلى كل هذه الاعتبارات، فقد تجنّبت مخيمات اللاجئين الدخول في المعادلة السورية الداخلية، على رغم محاولة بعض الأطراف (وضمنها فلسطينية) التلاعب بهذا الأمر، وتحميل المخيمات ما لا تحتمل، لتوظيفات ضيّقة. على رغم ذلك، فإن هذا الموقف لم يجنّب تلك المخيمات بعض المخاطر والمعاناة والضحايا، فقد حصل هذا، لا سيما في مخيم «الرمل» (في اللاذقية)، لكنه حصل ليس لأن هؤلاء فلسطينيون، وإنما لأنهم «سوريون» بالمعنى الذي ذكرناه سابقاً، وبسبب تداخل أحيائهم مع أحياء السوريين، التي تشهد حالة انتفاضية شعبية، بحيث لم يجرِ التمييز بين المواطن السوري واللاجئ الفلسطيني. هنا ثمة ملاحظات عدة على مجمل رد الفعل الفلسطيني، فمن جهة السلطة (في رام الله) صدرت خطابات لم تكن موفّقة تماماً، لا سيما في شأن إيحائها أن الاستهداف يخصّ اللاجئين الفلسطينيين وحدهم، وهي التي كانت ابتعدت كثيراً منهم، بعد تهميشها المنظمة. علماً ان خطابات هذه السلطة لم تفعل شيئاً لفلسطينيي نهر البارد (في لبنان) الذين لا يزالون منذ سنوات في العراء، كما لم تفعل شيئاً لفلسطينيي العراق الذين توزّعوا في مختلف أصقاع الدنيا. المعنى من ذلك، أن المطلوب من القيادة الفلسطينية أكثر من مجرد خطابات. مطلوب منها استعادة منظمة التحرير، باعتبارها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وعلى قاعدة تمثيلية وديموقراطية، وتفعيل دورها ومؤسساتها في مختلف تجمعات اللاجئين، لا سيما في هذه الظروف العربية والدولية المواتية، وليس مجرد رفع علم على سفارة في بيروت او غيرها. أما ردّ فعل المعارضة الفصائلية في دمشق فجاء جدّ مستفزّاً، ومن طبيعتها، إذ إن إنكار تفريغ مخيم «الرمل» من معظم سكانه، ونفي تعرّضه للقصف، وإنكار سقوط ضحايا منه، أمور لا تفيد، بل تفاقم المشكلة بدل أن تحلها، فضلاً عن انها تضرّ بصدقية الفصائل ذاتها. وعلى الصعيد الشعبي، كان من المفهوم قيام مجموعات من الشباب في مخيم اليرموك بتنظيم تظاهرة للتضامن مع أهلهم في مخيم «الرمل»، فهذا اقل ما يمكن عمله، في هذه الظروف، لكن ما يستحق الاستهجان هو محاولة البعض الرد بنوع من تظاهرة أخرى، وكأن ثمة من لا يبالي بما جرى للفلسطينيين في مخيم «الرمل»، أو ثمة من يؤيد «الحل الأمني»، الذي ثبت انه يضرّ بسورية، وباستقرارها وبوحدتها وبمستقبلها. هكذا على كل الاطراف عدم التلاعب بمصير اللاجئين، والتعامل مع هذا الأمر بمسؤولية وطنية، ووعي حساسية وضعهم في البلدان والمجتمعات التي يقيمون فيها بمكانة المقيم الموقت، على كل ما في ذلك من اضطراب وجودي. وحقا، فإن الفلسطينيين، بسبب إحساسهم بالظلم التاريخي المحيق بهم، لا يمكن إلا أن يكونوا مع الحرية والعدالة والكرامة، ومع دولة المواطنين التي لا بد ستنصف اللاجئين منهم، لكنهم ليسوا بديلاً من احد، فالشعب في كل بلد هو الذي سيقرّر مصيره، بطريقة سلمية وديموقراطية. هذا هو الدرس الأبلغ للثورات الشعبية العربية. * كاتب فلسطيني