كشفت تصريحات جهاد مقدسي (الناطق بلسان الخارجية السورية)، المتعلّقة باعتبار الفلسطينيين اللاجئين في سورية ضيوفاً «يسيئون الأدب»، عن حقيقة الشعارات التي عاش عليها نظامه طوال العقود الماضية، وعن كونها مجرّد ادّعاءات للتوظيف والاستخدام، فضلاً عن أنها قوّضت كل العقيدة «القومجيّة» التي برّر فيها هذا النظام مصادرته الحريات وهيمنته على البلاد والعباد، طوال أربعة عقود، بخاصّة أنها صبّت في طاحونة تصريحات أخرى، ضمنها اتهام بثينة شعبان (المستشارة الرئاسية) للفلسطينيين، في مخيم الرمل (في اللاذقية)، بأنهم يقفون وراء ما يجري في منطقتهم، في محاولة منها لنفي الطابع الوطني عن ثورة السوريين، كما تصريح السيد رامي مخلوف، رجل الأعمال المعروف، وابن خال الرئيس السوري، الذي كان حذّر من أن تهديد النظام في سورية يعني تهديد استقرار الشرق الأوسط، وضمنه استقرار إسرائيل. ومعلوم أن أطرافاً عدة، محسوبة على النظام، حاولت منذ بداية الثورة السورية (آذار/مارس/2011)، الادعاء بأن الفلسطينيين وراءها، فإضافة إلى تصريحات السيدة شعبان ثمة ما كتبته جريدة «الوطن» السورية، وما روّجته قناة «العالم» الإيرانية، حينها. لكن ما الحقيقة؟ في الواقع فإن المخيّمات الفلسطينية، المتوزّعة في مدن حلب واللاذقية وحماه وحمص ودمشق ودرعا، لم تكن بمثابة بؤر ناشطة في الثورة السورية، مثلها مثل البؤر التي كانت تجري فيها التظاهرات الغاضبة، والاعتصامات الحاشدة، على غرار ما كان الأمر في دوما والزبداني وبرزة والميدان والقابون والمزة في دمشق، أو على غرار ما كان يجري في مدن حمص وحماه ودرعا وإدلب. ومثلاً، فقد كانت التظاهرات العارمة التي تعمّ شوارع منطقة الحجر الأسود (جنوبدمشق) تتجنّب الوصول إلى مخيم اليرموك المجاور لها تماماً، والأمر ذاته ينطبق على مجمل مخيمات مدينة دمشق الخمسة الأخرى، ومخيمي مدينة حلب (النيرب وحندرات)، وغيرهما من المدن، في ما يمكن اعتباره بمثابة تفهّم من مكونات الثورة السورية لخصوصيّة وضع المخيمات الفلسطينية. وربما ينبغي هنا لفت الانتباه إلى أن هذا كان يجري على رغم وجود نوع من وعي جمعي، عند معظم الفلسطينيين، غير متعاطف مع النظام السياسي السوري، بحكم أن معاناتهم مثل معاناة السوريين، وبالنظر الى التصادم التاريخي بين الوطنية الفلسطينية، كما مثّلتها حركة «فتح»، وسياسة التدخّل السورية، مع ما يجرّه كل ذلك من ذكريات ومآسٍ، تبدأ من مخيم تل الزعتر إلى حروب المخيمات وصولاً إلى مخيم نهر البارد. وقد يمكن تفسير ذلك، أيضاً، بضغط الذكريات المأسوية المختزنة من التجارب السابقة، التي وضعت الفلسطينيين في مهب الريح، في الأردن (1970)، ولبنان (بعد العام 1982) والكويت (1991) والعراق (بعد عام 2003)، وفي غياب الإجماع الوطني عندهم، وترهّل كياناتهم السياسية، فضلاً عن إدراكهم محدودية دورهم في المعادلات السورية، إذ إن نسبتهم العددية لا تزيد عن 2.5 في المئة من عدد السكان. يجدر التذكير هنا بأن الكيانات السياسية الفلسطينية (وضمنها المنظمة والسلطة والفصائل) نأت بنفسها عما يجري في سورية (باستثناء المنظمات المحسوبة على النظام والمقيمة أساساً في سورية)، وهذا ينطبق حتى على حركتي «فتح» و «حماس»، على رغم أن الأولى محرومة من العمل العلني منذ ثلاثة عقود في سورية، وأن ثمة خصومة تاريخية بينها وبين النظام القائم، كما ان الثانية تعاطفت مع الربيع العربي في البلدان التي حصلت فيها الثورات. لكن عدم تحوّل المخيمات الفلسطينية إلى بؤرة من بؤر الثورة السورية الساخنة لا يعني أنها نأت بنفسها عن هذه الثورة، بالمعنى السلبي، ذلك أن هذه المخيمات عبرت عن تعاضدها مع الثورة السورية، بطرق أخرى، تمثّلت باحتضان أبناء المدن والأحياء المنكوبة، وتقديم الدعم الإغاثي لهم، في ما يتعلق بالمواد التموينية، والطبابة، والسكن، وحتى في مجال الإعلام حيث نشط فلسطينيون كثر على شبكة «الفايسبوك» نصرة لقضية الثورة السورية، في المعركة على الرأي العام. فوق كل ذلك، ثمة أيضاً فلسطينيون شاركوا مباشرة في فعاليات تلك الثورة، أي في التظاهرات والاعتصامات ومساعدة التنسيقيات وإخفاء النشطاء ونقل الجرحى، وإسعاف المصابين، فثمة منهم من قتُل ومن اعتقل ومن نكّل به ومن لوحق ومن اختفى. لكن معاضدة المخيمات الفلسطينية للثورة السورية لم تكن ذاتها، إذ ثمة تفاوتات بين مخيم وآخر، تماماً كما ثمة تفاوتات في مشاركة مدينة سورية وأخرى في هذه الثورة. والحال، فإن مخيمات الفلسطينيين في سورية تطبّعت بطابع المدن الموجودة فيها، إذ وجدت مخيمات درعا وحمص واللاذقية وحماه نفسها في خضم الثورة السورية، في حين أن المخيمات الأخرى، في مدينتي دمشق وحلب، تطبعت بحال هاتين المدينتين؛ اللتين تجاوبتا بصعوبة، وفي وقت متأخّر مع الحالة الثورية، علماً أننا هنا نتحدث في كل الأحوال عن الطابع السلمي والشعبي للثورة. عدا ذلك، فلعل من المفيد التأكيد هنا أن المخيمات الفلسطينية لم تشهد البتّة أي ظاهرة تسلّح، أو مشاركة في فعاليات عسكرية مناصرة للثورة، على رغم أن النظام تعامل مع بعض المخيمات كما الأحياء السورية المجاورة لها، بحيث إنها تعرضت للقصف، ونالها ما نال جوارها، من تدمير وتنكيل وتهجير وقتل، وهو ما حصل في مخيمي درعا واللاذقية، وبدرجة أقل في مخيمي حمص وحماه، وأخيراً في مخيم اليرموك. ولم تقتصر معاملة النظام مع المخيمات على هذا النحو الوحشي، فقط، إذ إن أجهزته الأمنية وبالتعاون مع بعض الجهات الفلسطينية، المعزولة جماهيرياً، حاولت خلق حالة موالية لها في المخيمات، لتحويلها إلى بؤر للثورة المضادة، وعملت على تسليحها، وإطلاق يدها، في العبث في المخيمات، وضمنه إثارة الفتن بينها وبين جوارها (وهو ما نجح جزئياً في النيرب)، الأمر الذي تم التغلّب عليه، ومقاومته، وتفويت استهدافاته، بفضل وجود قطاعات من الشباب الفلسطينيين التي أخذت على عاتقها ذلك. وفي إطار الحديث عن المخيمات ربما من المفيد تمييز مخيم اليرموك، الذي يعتبر بمثابة مدينة، فضلاً عن كونه بمثابة «عاصمة» مخيمات اللاجئين، بالنظر إلى انه يضم اكبر عدد من اللاجئين في مخيمات الفلسطينين قاطبة. فهذا المخيم القائم في جنوبدمشق، والذي يضم أكثر من نصف مليون فلسطيني وسوري، يعيش حالة حراكات سياسية وتفاعلات ثقافية، ذات طابع مديني، أنشط من المخيمات الأخرى، وثمة رأي عام فيه في أوساط قطاعات واسعة من الشباب ترى أن ليس ثمة فرق بين فلسطيني وسوري في مسألة النضال من اجل الحرية والكرامة. ومع أن هذا المخيّم حافظ على سمتي التعاضد والتفاعل غير المباشرين مع فعاليات الثورة السورية، إلا انه رفدها بأكبر عدد من الناشطين بين المخيمات الأخرى، أيضاً. لكن مخيم اليرموك هذا، ومنذ تظاهرة يوم الجمعة (قبل الماضي)، أي بعد عام ونصف عام من الثورة تقريباً، بات مختلفاً، بمعنى أنه تجاوز العتبة، بالتحوّل من مساندة الثورة، إلى الدخول على خطّ فعالياتها. ففي اليوم المذكور استخدمت الأجهزة الأمنية الرصاص لتفريق المتظاهرين السلميين، وترويعهم، ما أدى إلى مصرع وجرح العشرات. وقد تفاقم الوضع في اليوم التالي عندما شهد المخيم تظاهرة ثانية عارمة، لتشييع الشهداء، عبر فيها الفلسطينيون عن غضبهم مما جرى، وعن انحيازهم للثورة السورية، المشروعة والعادلة، وبدورها فإن هذه ووجهت بوحشية لا تقل عن سابقتها. وإنه لمن اللافت تزامن هذا الصعود الفلسطيني باتجاه الثورة السورية مع تصاعد فعاليات الثورة ذاتها. هكذا بات مخيم اليرموك احدى علامات الثورة السورية، وما عزّز ذلك لجوء المنكوبين في المناطق المجاورة إليه، حيث احتضن اللاجئون الفلسطينيون القدامى «اللاجئين» السوريين الجدد، وتفانوا في تقديم كل الرعاية والطمأنينة لهم. ليست تلك الحادثة الأولى التي أدخلت هذا المخيم على خطّ الثورة السورية، إذ سبقتها انتفاضته العارمة، إبان تشييع الشهداء الذين قتلوا برصاص القنص الإسرائيلي على الحدود مع الجولان، في الخامس من حزيران (يونيو) من العام الماضي، ففي تلك الانتفاضة صبّ المخيم جام غضبه على الفصائل المتواطئة مع النظام السوري، باعتبارها ضحّت بهؤلاء الشباب في سبيل حرف الأنظار عن مجريات الثورة الشعبية في سورية. اللافت أن ما جرى في الحادثتين الأولى والثانية عبّر عن أفول عصر الفصائل، من الناحية العملية، حيث إن الفاعلين هم من الشباب الذين عركتهم الأحداث، والذين باتوا أكثر احتكاكاً بالعالم بفضل وسائل الاتصال والثورة المعرفية، والذين يبحثون عن دور لهم في هذا «الربيع العربي» الجارف. وينطلق هؤلاء في تفاعلهم مع الثورة السورية من قناعة مفادها أن ما هو جيد للسوريين جيد للفلسطينيين. * كاتب فلسطيني