آثر الفنان إيلي بورجيلي في معرضه الجديد (صالة المعهد الثقافي الفرنسي - بيروت) أن يستعيد ذاكرة الحرب، لاسيما أنه من الجيل الذي عاش أهوال فصولها حين كان يقيم في فتوّته مع أهله في منطقة عين الرمانة، التي عرفت أشرس المعارك خلال الحرب اللبنانية. لذا استعاد حادثة البوسطة المشؤومة التي ولّدت شرارة العنف ونقلت طاقة الحياة من الوجود المعيشي والسكني الى توابيت الموت. أدرك الفنان بورجيلي أن الإشارات السيميائية يمكن قراءتها كشكل وجودي في مفاهيم الزمان والمكان. لذا راح يجمع في معلبات تجهيزات صناديقه الخشبية الأربعة والعشرين مخلفات المواد والأشياء، ويتعامل معها كدلالات لآثار الحياة الاستهلاكية العابرة. كما لو أنه من خلالها يدعونا كي نتجول (على مدار الزمن 24 ساعة) بين رموز مرايا الوجوه - الأقنعة (وجوه الضحايا)، كي ندرك ان الأشياء هي عيّنات من صور الحياة وليست من صور الموت بطبيعة الحال، وأن الأقنعة التي يحتفي بوجودها داخل الصناديق ليست بالضرورة صور الضحايا - الموتى وإنما هي دعوة كرنفالية لتأطير مرجعية العنف المجاني الذي ابتلع الأعمار والأمكنة والذكريات. والمعرض هو مدخل لتأمّل عنف القطيعة الذهنية عن البنى التحتية التي جهد الإنسان لبنائها في اطار تمجيده الحياة العصرية المتضمنة جوهر الحياة الإنسانية وعلاقتها الجدلية بطبيعة الخامات. تلك الخامات المتنوعة التي تدخل في صلب التجهيز، على انها جماد وسوائل وأدوات جاهزة الصنع ومساحيق، ما هي إلا أشكال متحوّلة من حال الوجود الكليّ الى التناثر العدمي ما بين الأسباب والنتائج (خيوط/ قطن، حجارة/ حصى، زجاج/ كسور، خردة/ نثار معدني، قطع خشب/ أقلام الرصاص...). هذه العملية التحويلية للأشياء ذات الوظائف اليومية وطبيعتها المادية، ما هي إلا صورة مجازية عن التحوّل المفاجىء والمجاني، لأقنعة الحياة والصورة الغيبية للموت. ولكن هذا السلوك الفني في تجهيز بورجيلي لا يخلو من اللعب والاستفزاز والصيرورة والمجّانية ولو كان منبثقاً من وقائع الذكريات والإسقاطات الفلسفية. يعترف إيلي بورجيلي أن وجه القناع - الضحية هو وجه صديقه عبده الحاج الذي كان يتقاسم وإياه المقعد الدراسي في مرحلة شهادة البريفيه العام 1975. لم يكن صديقه الوحيد يتجاوز وقتئذ مثله الخامسة عشرة من العمر حين كان يخبىء مسدساً في كتابه ويعتبره بأنه أفضل درس في الوطنية. الا أن عبده رحل ودفن باكراً في المقبرة وبقي وجهه ساطعاً في ذاكرته كقنديل يزداد تألقاً وضياء، كملاك حمل يوماً مسدساً كي يدافع عن نفسه وشارعه ووطنه. يتماهى إيلي بورجيلي مع خدوش ذاكرة البوسطة التي «قتلت براءتنا» وجلبت الى شوارعنا رماد جحيم الحرب الأهلية، لذا فقد صمم تجهيزات الصناديق الخشبية على نسق من الاصطفاف شبيه بمقاعد البوسطة لاسيما وأنها مزودة بمرايا، وهي تحيل من جهة الى ستارة سوداء ومن الجهة المقابلة الى عمل جداري يعكس درامية ذاكرة دواليب البوسطة التي دهست بألوانها الدموية رؤوساً ومسحت وجوهاً ومحت الهيئات وأودت بالذكريات والأعمار ورمتها في آبار مظلمة. وقد ترافق التجهيز مع كتابات سردية استذكارية وعروض لشرائح بصرية (فيديو- ارت)، اشبه بتلطيخات الجدران المنسية وأعماق الشقوق والحروق والإشارات الجحيمية الكابية في ملامح بقايا الأمكنة التي تعكس في جوهرها أصداء لصور تجريدية متوالية. في معرضه « Memoria 75 « يدين إيلي بورجيلي صراعات العنف التي أفقدت الإنسان ثيمات ملامحه وروحه، كما لو أن خدوش الذاكرة هنا تتماهى مع صرخة أطلقها الشاعر الفرنسي ألفرد دي موسيه (1810- 1857): «دع هذا الجرح المقدس، دعه يتسع، فلا شيء يجعلنا عظماء، كالألم العظيم».