احتفلت الأوساط الفنية في البحرين بذكرى مرور أربعين عاماً على انطلاق «معرض البحرين السنوي للفنون التشكيلية»، الذي أقيم في رحاب منشآت ضخمة أعدت خصيصاً للمناسبة على شكل أهراءات نصبت في الباحة الخارجية للمتحف الوطني. وقد أدرج المعرض في سياق باكورة الأجندة الثقافية التي تنظمها وزارة الثقافة تحت عنوان «الفن عامنا»، ضمن خطة وضعتها وزيرة الثقافة الشيخة مي بن محمد آل خليفة للاحتفال بالفن كرسالة إنسانيه للفكر والإبداع بغية وضع مملكة البحرين طوال عام كامل على خريطة الدول الحاضنة للفنون. لعل من أبرز مميزات المعرض السنوي أنه يتيح فرصة التأمل في تجارب أبرز فناني البحرين الذين ينتمون إلى أكثر من جيل. وأثمر التلاقي والحوار النامي بين شجرة الأجيال المعمّرة وفروعها وأغصانها، على مدى أربعين عاماً ظهور مختلف تيارات الحداثة وما بعدها وصولاً إلى التجارب المعاصرة. وتمثلت هذه المشهدية المفتوحة على المناخات التجريبية بمختارات من نتاجات المحدثين والمخضرمين والشباب، التي تموضعت جنباً إلى جنب، في ضوء اعتبارات القيمة الفنية. وهي تطرح أسئلة لطالما كانت مؤجلة حول واقع اللغة التشكيلية في محاورها المتعددة التي تدور في فلك التشخيص والتجريد والصورة والعلامة والتجهيز. فقد بات مسلّماً به أن تأثيرات جيل الحداثة تركت بصماتها الظاهرة على أساليب جيل الخلافة، وفي المقابل تظهر بعض التجارب لدى المحدثين أنفسهم وكأنها تراوح مكانها في الحفاظ على جماليات وثوابت قد تخطاها الزمن، في حين أن أساليب بعض الفنانين المخضرمين اقتحمت أبواب المعاصرة كي تتفوق على نتاجات الجيل الشاب. هكذا تتفاوت مستويات النقاش حول الأعمال الفنية، بين الضفاف الراكدة المطمئنة وجريان مفاعيل الزمن الراهن المطعون بالقلق والتوتر، بكل من تحمله من انشقاقات وانزياحات وأساليب مشغولة على مواكبة الانفتاح العربي الخليجي على استراتيجيات التفاعل العالمية. تقطف مروة آل خليفة في عملها التجهيزي «موتيفات» غرافيكية هندسية كي تبني من خلالها مناخات أرابسكية تتوالد من إمكانات تحوّل العشوائيات إلى أطياف من حقول نظامية تعتمد في مظهرها على الإنارة الداخلية للشاشة البصرية. ويمشهد عبد الرحيم الشريف موضوع السمكة- الضحية بأسلوب رمزي يدمج بين الواقع والتجريد، للتعبير عن لعبة الموت المجاني في الحروب العربية المفتوحة على المجهول. أما بلقيس فخرو فقد جسدت ذاكرة الجراح التي تنبثق من حكايات تفسخ الجدران التي تتسلل الى دواخلنا، فهي تحفر عميقاً في نسيج سطوح لوحاتها باحثة عن رقائم اللون في تشابك الأزمنة وتداخلها، ما يتجلى بإشاراتها العاطفية كقصائد موهومة. إن مفهوم الدمج بين خدوش السطح والانزلاق والتمشيح للطبقات والسيول اللونية نراه يحضر بقوة في أعمال زهير سعيد الذي يستخدم أخشاب الأبواب المهملة كسطوح للوحاته الحاملة دفقات اللون الأسود كنسيج عفوي لمدائح الليل الملتهب بالحروق والثغرات، كما لو أن التجريد المضطرب لدى الجيل الجديد منذور لهالات النور المنتشرة على سطوح السقوف والأبواب الآمنة وأوجاع مفاصلها المخلعة، على نحو ما يظهر في أعمال لبنى الأمين التي رسمت قامات من الوجوه الإنسانية المبهمة المعالم على أخشاب النوافذ القديمة للتعبير عن الخوف والوحشة. تلك الوحشة التي تتجسد كإيقاع درامي كئيب لمجازر الموت المجاني التي عكستها ثلاثية فيصل السمرا تحت عنوان «اللحم العربي» ضمن المنحى التركيبي الآسر للصورة الرقمية. ووفق هذا الخوف من خلخلة خرائط المجتمعات العربية، بعد ما آلت إليه وقائع ثورات الربيع العربي، انبثق العمل التجهيزي لهلا آل خليفة من مجموعة عبوات المطافئ الحمراء التي رسمت من خلالها خريطة العالم العربي وأحلام الحرية الهائمة وسط لعبة الدم والموت والمجازر. أما فاطمة الجامع فقد كوّنت عملها التجهيزي من مجموعة من الساعات السوداء ذات العقارب الحمراء التي تشرئب رؤوسها على أسلاك من حديد ملتوية تومئ بحركات لمجموعة بشرية تقف على هيكل لدائرة مصنوعة من أخشاب صناديق قديمة. كما لو أن الزمن الراهن هو زمن اضطراب، لذا فإن فائقة الحسن وزعت حشود الجماهير في «ساحة الميدان» بحيث يظهر الإنسان مجرد إشارة أو رقم في فضاء متاهات أحداث الشارع. ومن مقترب الاستعراضية الباهرة لفن البوب- آرت الأميركي، قام جياد حسن بتغطية سيارة مرسيدس من موديل الستينات بقطع الزجاج الملون التي عرضها كتحفة فنية. جنح بعض الأعمال للتعبير عن حمائم السلام بأسلوب يتفاوت بين التشبيه والتجريد وفن التجهيز، فتظهر رفوف الحمائم في منحوتات خالد فرحان منبثقة من صفحات كتاب أو من هيكل معدني وهي تدور في فضاء دائري. أما حمائم خليل الهاشمي فشكلت في سياقاتها الاتصالية نصباً شبه دائري ومفرّغاً، في صوغ جمالي يحتفل بحركة الطير في الفراغ. في حين ربضت حمائم عائشة حافظ على أوانٍ من البورسلين الأبيض لكأنها عائدة من مدارج المجهول، تلك المدارج الفسيحة التي لا حدود لها وهي تومئ بالانسراح والتيه اللذين تطل ملامحهما في تعابير وجوه الفتيات اللواتي رسمهن أصغر إسماعيل وهن يحملن في ايديهن زهرة أو حبة لؤلؤ. فالتوق إلى تجسيد فرح الحياة رغم مرارتها يظهر في العديد من الأعمال، من بينها لوحة لبريان العشماوي تصور جلسة استراحة لثلاثة فتيان من الريف المصري يعملون في مسح الأحذية، وهم يستمعون إلى الموسيقى من هاتف خليوي، يحمله أحدهم بكلتا يديه وهو منهمك في وضع نبض رغباته على شاشته، بأسلوب واقعي لافت يعكس مرايا الحقائق الجديدة لعصر الاتصالات. يبقى المشهد التشكيلي في البحرين حافلاً بالأسئلة التي تؤسس لتحولات التجارب وتجليات حلولها البصرية الباحثة عن خصوصية وفرادة وسط هواجس الحفاظ على الذاتية المتأصلة بمجريات الواقع والبقع الطافية على سطح العين في عصر العولمة. راشد آل خليفة من بوابة الفن البصري الذي أصبح سمة الفنون المعاصرة، جاءت اللوحة المحدّبة Convex في نتاج الفنان راشد آل خليفة كحاجة ملحة للاندماج في عصر جديد، حتى أضحت السطح الرائي وليس المرئي فحسب، بما تحمله من أفقٍ غير مستقر ودينامية تستبعد الركون الى الثوابت، واستخدام للألوان الصناعية واللدائن وخامات المعادن وبريقها. والعمل التركيبي الذي قدمه راشد آل خليفة الرئيس الفخري لجمعية البحرين للفنون التشكيلية، كتحية الى الجمعية التي تحتفل بذكرى مرور ثلاثين عاماً على تأسيسها، يتألف من ثلاثين لوحة محّدبة تعكس مرايا الذاكرة، عبر الاحتفاء بكيمياء المتغيرات اللونية التي تجعل من كل لوحة حالة بصرية هي في أوج احتدامها وتلاقيها وتلاطمها. وما العنصر التكراري سوى رصد للمتغيرات التي تظهر على محور اللون- القلب، وفق تلميحات ارتباط الأزمنة بظواهر ما سماه روبرت روشنبرغ «الإيقاع الخلاق لقوى الذكريات». لكأن الحساسية التلوينية تنبثق من أنفاس الحياة وتأملاتها وإيحاءاتها. هكذا يرى الفنان نفسه تحت وابل من الظواهر والإشارات الجوهرية التي تشكل في الوقت نفسه حقيقته وحقيقة الكون، لذا اعتبر راشد آل خليفة أن خفقات الدرجات اللونية تشكل آثار نبضات القلوب في محاور أزمنة الخطوط المتداخلة في الشبكة البصرية التي تسجل ايقاعات التفاعل مع «نوستالجيا» الحياة بوصفها ذاكرة وفضاء وحباً، حيث تجتمع وتختلط في نسيجها حقائق التأملات بأبجدية الأشكال وأحلامها.