عندما تنهال عليك هزائم الروح ، وتنطفئ شمعتك العتيقة التي خبأتها زمناً لفصل شتاء بارد يطرق أوردتك و أبواب قلبك.. تشعر بحاجة ماسة لمساحة من الفضاء ينثر في رئتيك هواء لم يتنفسه غيرك ، فتبحث عن ذلك الفضاء بين جدران مصبوغة بروائح مؤلمة.. تعبر من خلالها صور لأناس كانوا هنا فلا تجد غير ذكرياتك المهترئة... تلتقط وجهك وبعض نبضك المتشبث بصدرك وتخرج لذلك الشارع البعيد.. الشارع الذي تعثرت فيه لوحدك ونفضت غباره من فوق ملابسك وشعرك المتجعد. تقف والسكون يحيط بك من اتجاهات الحياة والهواء يعبر إلى داخلك بلا حواجز أو قمع. على عتبة الرصيف المحطم تجلس كعابر سبيل تحكي للحجارة عن سنواتك التي هجرت تواريخها ولحظاتها لتسكن الماضي وكأنها تعتب علينا لأننا استسلمنا للرحيل وتغنينا بغروب لم تشرق بعده شمس تبعث فينا دفء الأمس. وأنت وحدك تمتلك مقدرة عجيبة على استدعاء كل الوجوه والأسماء الغائبة وتستنشق ذلك العطر العتيق الذي كان يفوح من خزائن الأسرار.. ولكنك لا تستطيع استدعاء كل الضحكات غير ضحكة وحيدة بقية تجلجل بين أضلعك كأجراس تداعبها نسائم جبلية باردة. تتساءل عن سر هذه الضحكة وسر بقائها فلا تجد إجابة شافية لأن كل ما بداخلك منهار.. وذاكرتك بدأت تقتات على ما جمعت من سنوات الأمس. تتقدم من نهاية الشارع الذي يخترق حارات العمر لتجد نفسك تتلاشى كألوان الطيف العابرة وضربات قلبك تختفي ووجهك يشيخ.. تلتفت للخلف فتشاهد طفلاً صغيراً يرتدي ملابس متسخة يركل قطعة جلد شبه منتفخة. في البداية يصعب عليك تمييز ملامح ذلك الطفل ولكنك تشعر بشيء ما يشدك نحوه وعندما يقترب تجد أن ملامحه تشبهك كثيراً حتى ذلك الشج في جبينه يشبه ما في وجهك. ولكن للأسف ذلك الطفل يضحك بينما أنت قد ردمت منابع الضحك وهجرتها لأسباب ليس لك ذنب فيها سوى أنك جزء من دورة الحياة التي لا تكتمل بدون ضحايا. وقبل انتهاء المشوار والهواء تجد نفسك أمام باب خشبي منهك مصبوغ بعناية فائقة مزركشة أطرافه بأشكال نابضة.. هذا الباب تعرفه جيدا وتلك الخدوش على أخشابه محفورة في جلدك. تمد يدك لتطرق فلا تصل يدك وكأن هناك ما يزيح قبضتك.. تحاول النظر من خلال شقوقه فيطمس بصرك ظلام حالك مخيف يدخل الرعب إلى القلوب. عندها فقط يأتيك اليقين أن للدروب نهاية وأن الأمس سيظل مجرد لعبة نلهو بها كلما قست علينا الحياة.. هكذا سنظل نركض لنصل لخط النهاية ولكننا لن نصل لأنه مكتوب علينا الوقوف.