كما أننا ندرس الإنسان وهو يقول، فنحن بحاجة أكثر إلى دراسته وهو يفعل، وأكثر الأفعال عمقا ما كان من أعمال القلوب وحركات الباطن، حيث يشهد الإنسان ما هو غائب ويعيش في حضرته، تلك لحظة المعرفة الذاتية والوجود الحقيقي «مع الله». والإمام ابن تيمية وهو العارف بالله، لم تكن حياته علمية جافة كما توحي بذلك بعض آرائه وتصنيفاته، بل كانت حياته عبقاً إيمانياً، وتجربة روحية غاية في الذوق واللطف، لاسيما وهو الفقيه العالم بالكتاب والسنة، والمحقق للاستدلال وطرائقه، والمنطق وأصوله، والكلام وفلسفته، والأحوال ووقائعيتها. مما يعطي لوجدانياته مذاقها الخاص، حين لا يحبس نفسه في المقيدات، أو تقولبه المصطلحات، لينطلق من المعني إلى ظلال المعنى وآفاق العرفان، إلى المطلق واللامحدود واللامتناهي، إلى العظمة، وهناك لن ترد أسئلة الفيزياء، وتشككات الفلسفة، وعقلانيات المنطق، ولا ترد كذلك اجتهادات الفقيه وترجيحاته. لأنه «مع الله» والله «مع الذين اتقوا والذين هم محسنون». وفي هذه المقالة أشير إلى شيء من خبره كإنارات مفتاحية: أولاً: في بداية أمره وتشكل حاله؛ إذ قال ابن القيم «تلميذه» حدثني بعض أقارب شيخ الإسلام ابن تيمية «رحمه الله» قال: كان في بداية أمره يخرج أحياناً إلى الصحراء يخلو عن الناس لقوة ما يرد عليه، فتبعته يوماً خرج إلى البرية بكرة فلما أصحر - نزل الصحراء - وانفرد عن الناس بحيث لا يراه أحد، تنفس الصعداء ثم جعل يتمثل قول الشاعر «وهو لمجنون ليلى»: وأخرج من بين البيوت لعلني/ أحدث عنك النفس بالسر خاليا. وينقل ابن عبدالهادي «تلميذ الشيخ» عن بعض قدماء أصحاب الشيخ ابن تيمية قوله : ولقد سمعته في مبادئ أمره يقول: إنه ليقف خاطري في المسألة والشيء أو الحالة التي تشكل عليّ، فأستغفر الله تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل، حتى ينشرح الصدر وينحل إشكال ما أشكل. قال هذا الصاحب: ولقد كنت في تلك المدة وأول النشأة إذا اجتمعت به في ختم أو مجلس ذكر خاص مع أحد المشايخ المذكورين وتذاكروا وتكلم مع حداثة سنه، أجد لكلامه صولة في القلوب وتأثيراً في النفوس وهيبة مقبولة، ونفعاً يظهر أثره وتنفعل له النفوس التي سمعته أياما كثيرة بعقبه، حتى كان مقاله بلسان حاله، وحاله ظاهر في مقاله. شهدت ذلك منه غير مرة. ثانياً: ومن حاله في الذكر ما قاله القرشي في «تأريخ حوادث الزمان» كان كثير الذكر والصوم والصلاة والعبادة، ومن ذكره كان دائماً يقول: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث لا إله إلا أنت يا ذا الجلال والإكرام» ثم يشخص إلى السماء حتى يغيب بكليته، وكان من غرائب الزمان وعجائبه. أه وقد حكى ابن القيم عن الشيخ ابن تيمية قوله: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟ وقال ابن القيم عنه: وكان يتحرى التصدق بين يدي الصلاة والدعاء ما أمكنه. وقال عنه أيضاً: كان شيخ الإسلام ابن تيمية إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة. وسمعته يقول في واقعة عظيمة تعجز العقول عن حملها من محاربة أرواح شيطانية ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة. قال: لما اشتد عليّ الأمر قلت لأقاربي ومن حولي : اقرؤوا عليّ آيات السكينة. قال ثم أقلع عني ذلك الحال وجلست وما بي قَلَبه. وآيات السكينة هي «البقرة آية 248 التوبة الآيتان 26 و40 - الفتح الآيات 4 و 18 و 26». ثالثاً: وفي حال الدرس والتعليم، يحكي البزار قائلاً: وأما دروسه فقد كنت في حال إقامتي بدمشق لا أفوتها، وكان لا يهيئ شيئاً من العلم ليلقيه ويورده، بل يجلس بعد أن يصلي ركعتين فيحمد الله ويثني عليه ويصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفة مستحسنة مستغربة لم أسمعها من غيره... ويصير منذ يتكلم إلى أن يفرغ كالغائب عن الحاضرين مغمضاً عينيه... إلى أن قال: وكان إذا فرغ من درسه يفتح عينيه ويقبل على الناس بوجه طلق بشيش وخلق دمث كأنه قد لقيهم حينئذ وربما اعتذر إلى بعضهم من التقصي في المقال مع ذلك الحال. هذه نبذ لطيفة وللحديث بقية. [email protected]