المعروف عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن أقواله واختياراته وترجيحاته مبنية على قواعد وأصول يقتضيها النقل نصاً أو استنتاجاً، أو اقتضاءً، أو يقتضيها العقل، أو تقتضيها مقاصد الشريعة ومصالحها، وهو رحمه الله إمام في العلم، والفقه، والفتوى، وسلامة العقيدة، والقدوة في الاعتقاد، والاتباع السلفي، ولكنه - رحمه الله - بشر يصيب ويخطئ وهو وغيره، عدا رسل الله وأنبيائه فيما يبلغونه عن رب العالمين ممن يشملهم إمكان الخطأ والصواب والدخول في مدلول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه: كلنا خطاؤون وخير الخطائين التوابون. ولاشك أنه رحمه الله إمام من أئمة المسلمين وعالم متميز في علمه وصلاحه وتقواه ودقة نظره وعمق فهمه وفقهه، إلا أن ما يقوله ويختاره محل نظر، فقد ينجلي النظر وينتهي التأمل فيما يقوله رحمه الله إلى التوقف أو صرف النظر عن قوله ، والغالب الأغلب أن اختياراته وترجيحاته محل قبول وارتياح وقناعة وحجة في الاستدلال والقول.. ونحن حينما نقول بوجوب إعمال الفكر والنظر واستخدام العقل في الاجتهاد والاختيار والترجيح نؤكد على ضرورة الاعتماد على الله ثم على ذلك عملاً بالقول الصحيح الصائب: يُعرف الرجال بالحق لا إن الحق يعرف بالرجال. وأخذاً بقول الإمام أبي حنيفة: هم رجال ونحن رجال. ولا يعني هذا أن عدم الأخذ بقول إمام متميز في إمامته نقص في أهليته للقول والاختيار والترجيح فقد يكون النقص فيمن ترك الأخذ منه، وقد يكون الخطأ في قول الإمام نفسه دون أن يكون ذلك نقصاً في أهليته وكفاءته العلمية. هذه مقدمة أحببت تقديمها على عرضي مسألتين في الطلاق لشيخ الإسلام فيهما له قول بنى عليه رأيه في كل واحدة منهما إحداهما عدم قبوله أن يتكرر الفعل بتكرر القول كقولك سبحان الله ثلاثاً وثلاثين والحمد لله ثلاثاً وثلاثين والله أكبر ثلاثاً وثلاثين فليس لهذا القول ثواب تكرارها ثلاثاً وثلاثين وقال رحمه الله في رد الاحتجاج عليه بفعل أم المؤمنين جويرة في التسبيح والتحميد والتكبير بإحصاء ذلك بنوى عندها في مكتل فمر عليها صلى الله وسلم وقال: لقد قلت كلمات لو وزنت بما قلتِه منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله مداد كلماته، قال رحمه الله: إنه سبحانه يستحق التسبيح بعدد ذلك.. وليس المراد أنه سبح تسبيحاً يقده ذلك. إلى آخر ما قال: فالله سبحانه يستحق أكثر من ذلك. ثم إن هذا في رأيي - منه لَوي للنص إلى غير ما يحمله، فالرسول صلى الله عليه وسلم سبّح وسبح وسبح وسبح تسبيحاً صريحاً كما تسبح جويرة رضي الله عنها إلا أنه ذكر تسبيحه بعدد الخلق والمداد وزنة العرش ورضا الرب. وقد بنى شيخ الإسلام قوله على أن الطلاق إذا لم يتكرر نصه وإنما جاء الطلاق بعدد فليس للعدد وحده اعتبار، وبناء على هذا فقد رأى أن الطلاق بالثلاث بلفظ واحد لا يقع منه إلا واحدة واحتج على هذا القول بأمور قد تحتاج إلى مناقشة. ومن الأمور مسألة العدد محل النقاش فمن قال أنت طالق بالثلاث فتقع الثلاث كمن قال سبحان الله عدد خلقه فيقع التسبيح بعدد الخلق. وقد أمضى وقوع الطلاق بلفظ واحد جمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. عبدالله بن عباس رضي الله عنهما راوي حديث إن الثلاث في عهد رسول الله وعهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر كانت واحدة إلى آخر الحديث. المسألة الثانية: يرى رحمه الله أن الرجوع في الطلاق الرجعي يتم من المطلّق بالقول حيث يقول راجعتك أو نحو ذلك وبالوطء بنية المراجعة فإن وطأ مطلقته بغير نية المراجعة فوطؤه حرام ، ولا تحصل بهذا الوطء مراجعة. وهذا القول منه رحمه الله قول صحيح يسنده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات ولا شك أنها بطلاقه إياها أجنبية منه وإن كان طلاقاً رجعياً ولهذا اختلف العلماء في اعتبار الوطء بلا نية مراجعة ، فبعضهم اعتبره مراجعة وهذا مذهب، وبعضهم اعتبر الوطء بدون نية مراجعة حراماً، ولا تتم به مراجعة ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد بنى شيخ الإسلام ابن تيمية رأيه في أن من طلق زوجته ثلاثاً أو ثنتين بلفظين أو ثلاثة كقوله لها: أنت طالق ثم طالق ثم طالق أو طالق وطالق وطالق، أو طالق فطالق فطالق من طلق زوجته بذلك فلا يقع عليها إلا الطلقة الأولى وما لحقها لا يلحقها لأنها أجنبية منه بعد الطلاق. والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما الطلاق لمن أخذ بالساق. وقوله: لا طلاق قبل نكاح يؤيد ذلك. ولا شك أن من قال لزوجته أنت طالق ثم طالق ، أو أنت طالق فطالق أو طالق أن الطلاق يعْلق بها من أول طلقة وما بعدها لا يعلق بها لأنها قد طلقت بالطلقة الأولى فلا يلحقها طلاق قبل المراجعة فتصبح الطلقة الثانية والثالثة لغواً لأن المطلّقة بالطلقة الأولى قد أصبحت أجنبية. والطلاق لمن أخذ بالساق. وقد انفلتت الساق بالطلاق من الزوج المطلق فلا يلحقها طلاق بعد ذلك إلا بعد المراجعة. وهذا القول من شيخ الإسلام رحمه الله رأي وجيه مبني على ما يسنده من النقل والعقل والاعتبار وهو في رأيي - أي إيقاع الطلاق بألفاظ متعددة كما مر طلقة واحدة - رأي وجيه قابل للاعتبار والقبول والأخذ به ، وهو في رأيي أقوى وأقوم للاعتبار وأعلى للأخذ به من القول بأن الطلاق بالثلاث للفظ واحد يعتبر طلقة واحدة حيث إن جميع ما يستند عليه هذا القول صالح للمناقشة والرد. والقول بوقوع الطلاق المتكرر بعدة ألفاظ أقوى عندي من القول بوقوع الطلاق بالثلاث بلفظ واحد واحدة. وما سبق من التعليل والتدليل والتأصيل يدل على ذلك ويؤيده والله أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل.