يعتقد «حزب الله» أنه يحمي الطائفة الشيعية بإبقائها مسلحة ومرهوبة الجانب من باقي الطوائف، لكنه في الواقع يعرضها لمخاطر مستقبلية قد لا تتأخر في الظهور مع المتغيرات الإقليمية. وفي هذا المنحى يمثل الإشكال الحاصل حول ملكية الأراضي في قرية لاسا الجبيلية تفريطاً خطراً وبعيد المدى بمصالح الأقلية الشيعية في «بلاد جبيل»، في مقابل «مكاسب» آنية لا تتعدى عشرات الفدادين من الأرض، وتشكل امتداداً لانتهاكات الأملاك العامة في الضاحية الجنوبية من بيروت وفي الجنوب. فقد ارتكب الحزب سلسلة أخطاء عندما تدخّل في قضية لاسا، أولها أنه إذا كان هناك أي اعتراض على أي ملكية، فإن القضاء هو الجهة الوحيدة المخولة بت هذا الاعتراض وتصحيح الخطأ إذا وُجد، وليس مسلحو الحزب، وثانيها أن أجهزة الدولة وحدها، من قوى أمن وجيش، هي المخولة تطبيق القانون وحماية حقوق المواطنين أياً كان انتماؤهم الديني والسياسي، وثالثها أن الحزب بتدخله لدى البطريركية المارونية، الطرف الثاني المعني بالإشكال، «شرّع» الاعتداء الذي حصل على المسَّاحين وعلى فريق تلفزيوني، فاحتضن المعتدين ووفر الحماية السياسية والأمنية لهم. فشيعة جبيل الذين يقطنون هذه المنطقة منذ قرون طويلة، يدركون أهمية التعايش الآمن مع محيطهم وقد مارسوه طوال تاريخهم الحديث، ليس لأنهم أقلية فحسب، بل لأنهم تساووا مع المسيحيين في تلقي العسف العثماني، ما جعلهم منفتحين على جيرانهم الموارنة. وقد ثبت ذلك خلال سنوات الحرب الأهلية التي نجت بلداتهم وقراهم من ويلاتها. وباستثناء بعض التجاوزات البسيطة، لم يتعرض الشيعة في هذه المنطقة لأي أعمال عسكرية أو حصار أو تهجير. ولعبت العائلات المسيحية العريقة، مثل آل سعيد والخوري وإده والهاشم، والتي كانت تجمعها بهم روابط اجتماعية وخدماتية وانتخابية، دوراً كبيراً في الحفاظ على اللحمة الجبيلية ومنع نار الفتنة من الوصول إليها. أما اليوم فتبدو هذه اللحمة مهددة مع فرض «حزب الله» نفسه ناطقاً باسم القرى الشيعية في جبيل وجرودها، وما يشاع عن إقامته مراكز أمنية ومخازن سلاح فيها، واستخدامه وسائل الترغيب والترهيب لربط سكانها به وحده، وإزالة فكرة الدولة الجامعة من أذهانهم، مثلما فعل ويفعل في مناطق شيعية أخرى، عبر الحلول مكانها في تعبيد الطرقات وتوفير الخدمات الصحية والإكثار من بناء الحسينيات وإرسال شيوخ دين من خارج المنطقة لتعبئة أبنائها. وكان حزب «البعث» السوري سبقه الى العبث بأمن شيعة جبيل، عندما قام خلال فترة الإحتراب الأهلي بتأطير وتسليح بعض شبان القرى الشيعية، ما خلق توتراً مع القوى السياسية والعسكرية المسيحية دفع ثمنه بعض هؤلاء الشبان، من دون أن يتوسع الأمر الى حملة انتقامية. والشيعة في جرود جبيل يعرفون أنهم يتساوون مع جيرانهم المسيحيين في إهمال الدولة لمناطقهم، فهذه سمة عامة للنظام اللبناني الذي يركز الخدمات في المدن الكبرى ويهمل الأرياف. والفلاح الشيعي في المنطقة يعاني مثل الفلاح الماروني من شح المياه وانقطاع التيار الكهربائي وانعدام الطرقات. ومن يسلك طريق قرطبا، كبرى البلدات المسيحية، يجد أن طريقها مليئة بالحفر والانهيارات تماماً مثل الطريق الى علمات، كبرى البلدات الشيعية. تبقى ملاحظة لا بد منها، وهي أن السياسيين المسيحيين الذين يتناولون قضية لاسا، يجب أن يحرصوا على التمييز بين انتقادهم لتدخل «حزب الله» وسلوكه وبين موقفهم من الشيعة الجبيليين أنفسهم، بحيث لا ينزلقون من حيث لا يدرون الى تحريض طائفي يهدد التعايش، ذلك أن شيعة جبيل كانوا موجودين قبل «حزب الله» وسيبقون بعده.