تونس ومصر هما أكثر بلدين عربيين «نضجت» فيهما الدولة وأصبحت أكثر «انسجاماً» وتكاملاً في امتدادها المؤثر. ووصلت منطقتان كبيرتان في البلدين، تونس «الساحلية» ومصر «الوجه البحري» تحديداً، إلى درجة من النضج والاكتمال بحيث إذا تمعنّا في مؤسسات الدولة وشخوصها فيهما لوجدنا ذلك متحققاً فيها. ولقد تبقّى في الجنوب التونسي وفي «الوجه القبلي» بمصر، أي الصعيد، شيء من المؤثرات المعاكسة لنشوء «الدولة» ونضجها واكتمالها، ولكنهما يمثلان جزءاً صغيراً من الوطنين التونسي والمصري على التوالي. لذلك، نجحت الثورة في تونس ومصر في زمن قياسي، وكان «الانسجام» الحاصل في الامتداد السكاني، وبالتالي في الجيش، مدعاةً لهذا النجاح. يقول ابن خلدون التونسي قبل ستة قرون ونيّف، عن مصر إنها «سلطان ورعية»، بمعنى آخر هي سلطة وامتداد سكاني منسجم لا تقسمه «العصبويات» المجتمعية كغيره. ولا بد لنا من تأمُّل التطور التاريخي لكل من البلدين، وخصوصاً في القسم البحري المطل على المتوسط والمتأثر بالوجود الأوروبي – شمالاً -. أما في البلدان العربية الأخرى، كليبيا وسورية واليمن، فإن «العصبويات» ما زالت تتصارع وتؤخر الحسم، وكان ابن خلدون أيضاً يردد في مقدمته أن «الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلَّ أن تستحكم فيها دولة»، فالعصائب الكثيرة، من قبائل وطوائف، تفرض نفسها ولا تسمح للدولة بالنشوء. إن هذا بدوره يمكن أن يوصلنا إلى تفسير موضوعي، بعيداً عن الاعتبارات الشخصية، للظاهرة المحيرة في عالمنا العربي لنجاح الثورتين التونسية والمصرية في زمن قصير، مع بقاء «الحالات» الأخرى في بلدان عربية كليبيا واليمن وسورية من دون حسم، واستمرار الصراعات المحلية، التي لا نستبعد سعي الدول الخارجية للاستفادة منها. إن علينا إدراك الظروف الموضوعية الداخلية لتونس ومصر، وعدم نسبة الأمر إلى اعتبارات «شخصية» أدت إلى التطورات فيهما، وربما كان النظر في دور الجيش مساعداً لنا في استيعاب الفكرة أعلاه. لقد «حسم» الجيش، أعني استطاع أن يحسم الوضع في كل من تونس ومصر، بسبب كونه يعبِّر عن «انسجام» مجتمعي تمثله الدولتان الناضجتان والمكتملتان. ولا بد لنا هنا من أن نتحدث بصراحة، فثمة «حديث إعلامي مجامل» لشباب الثورة في البلدين، مما جعل أحد المعلقين يقول إن كل شاب من هؤلاء بات يتصور نفسه «قائداً للثورة» لا بد أن يُستمع إلى رأيه. ولكن حقيقة الأمر أن المؤسسة العسكرية هي التي «حسمت» الأمر. وبرز حديث طويل عن الدور «الوطني» للجيش في دعم الثورة. وحقيقة الأمر أن المؤسسة العسكرية قررت الحفاظ على امتيازاتها بالتخلي عن رئيس الدولة الذي أصبح عبئاً عليها. وإذا أخذنا أهمّ وأكبر بلد عربي، مصر، لوجدنا الجيش يحكمها منذ ثورة 23 يوليو 1952، وكلَّ رؤساء مصر، من محمد نجيب إلى حسني مبارك جاؤوا من الجيش، الذي نذر نفسه للحفاظ على «الاستقرار» في البلدين. أما القوى الأمنية التونسية، فواجهت «متمردين» من الذين يريدون الاستعجال والقفز على الظروف الموضوعية. الجيش في مصر قام بالعمل ذاته (إذ كيف يمكن تلبية مطالب الناس ب «العدالة الاجتماعية» في ظل الإمكانات المعروفة لكل بلد، مع اتجاه «الثوار» إلى التمرد، برومانسية، ورفض متطلبات العمل المنتج؟!) إن «شروط» الديموقراطية الكاملة على الطراز الأوروبي والغربي، مثلاً، لم تكتمل في العالم العربي والسلسلة محكومة بأضعف حلقاتها، لا بأقواها. فالتغيير السياسي في كل من تونس ومصر يمكن أن يحقق بعض الثمار، ولكن اكتماله لن يتحقق في اللحظة الراهنة، ولا بد من انتظار أضعف الحلقات كما يتضح في كل من ليبيا واليمن وسورية، وربما في أي بلد عربي آخر ما زالت تتحكم فيه «العصبويات التاريخية» التي لم تنضج ولم تنسجم بعد ... وهذا هو «الثمن» الذي دفعته مصر من قبل. فظروف هزيمة 1967 يعود بعضها إلى أسباب مصرية داخلية، لكن استمرارها يعود أيضاً إلى «أضعف» الحلقات في السلسلة العربية المتصدية، رغماً عنها، للمسألة الفلسطينية! لقد قيل في مصر في الذكرى التاسعة والخمسين لحركة الجيش في 23 يوليو 1952، إنه في ذلك الوقت تصدى الجيش للتغيير وسانده الشعب، وإن الشعب في «ثورة» 25 يناير هو الذي تصدى للتغيير فسانده الجيش. وثمة تصور لصيغة حكم مزدوجة في مصر، وربما في بلدان عربية أخرى، بأن يكون «نائب الرئيس» في الانتخابات المقبلة عسكرياً («الشرق الأوسط» - 7/24/ 2011 في مقابلة مع اللواء سامح سيف اليزل). بطبيعة الحال، لا بد من رئيس مدني منتخب، ولكن حتى تستقيم «المعادلة» لا بد من «تطعيم» الرئاسة بعنصر عسكري، فالجيوش لا يمكنها القيام بانقلابات، لأن العالم لا يتقبل ذلك. وبإزاء «الفوضى» التي شهدها العراق بعد الاحتلال الأميركي، راجت شائعات عن احتمال حدوث «انقلاب»، ولكن هذه الفكرة تم العدول عنها. وفي تركيا، كان الجيش يقوم بانقلاباته كلما خرج الساسة عن «الخط» ولكن ذلك لم يعد مقبولاً في عالمنا. فإن أراد الجيش أن يحكم، حيث تسمح له الظروف بذلك، فلا بد من أن يلجأ الى تكتيك آخر وأن يقبل ظاهراً بلعبة الديموقراطية من خلال تنظيمات «مدنية». في مصر اليوم، وعشية المواجهة الأمنية بين الجيش وبعض فئات «الثورة»، ثمة استذكار لأزمة آذار (مارس) 1954، عندما هبت قوى وأحزاب سياسية مصرية تطالب بعودة الجيش إلى ثكناته والعودة إلى الديموقراطية البرلمانية. ولكن عبد الناصر وجماهيره وقفوا في وجه تلك «الانتفاضة» واتخذت الأحداث مساراً آخر، ويقول الضباط الموالون لعبد الناصر إن تلك القوى المصرية المنتفضة في أزمة آذار 1954 كانت تريد العودة إلى مواقعها في السلطة، كما أن «التجربة البرلمانية» كانت سيئة السمعة في مصر، حيث لم يجرب الناس – بعد – حكم العسكر! * كاتب من البحرين