سيسجل التاريخ للرئيس المصري محمد مرسي أنه أسدل الستار على 6 عقود من حكم المؤسسة العسكرية لمصر. وضع جمال عبدالناصر الجيش في سدة الحياة السياسية المصرية فكان أن أخرجه مرسي بقراراته الجريئة التي كشفت عن شخصية تتوافر على مقومات الحسم، وببراعة سياسية غير متوقعة. بين يوم الأحد، 12 اغسطس 2012 و 23 يوليو 1952 ستة عقود بالكمال والتمام. شهدت خلالها مصر أحداثا جساما.. القاسم المشترك الأكبر خلالها أن المؤسسة العسكرية ظلت هي المسيطرة والمهيمنة على الحياة السياسية. التاريخ لن يعود للوراء. ولكنه أيضا يستمد قدرته على المضي للأمام من دروس ومفاصل وحوادث التاريخ الحاسمة. عام 1952 ليس عام 2012 .. جرت مياه كثيرة في النهر.. ونهر النيل تدفق عظيم منذ ملايين السنين. لم تكن مصر عشية 25 يناير 2011 هي مصر حريق القاهرة في يناير 1952. ولم تكن مصر في اغسطس 2012 هي مصر مارس 1954 وهي تؤسس لجمهورية العسكر الأولى. ولم تكن مصر وهي تودع الملك فاروق على متن يخت المحروسة لتسدل الستار على آخر ملوك أسرة محمد علي.. هي مصر التي تسدل الستار على ستين عاما.. وهي تدفع برموز المؤسسة العسكرية للابتعاد عن المشهد السياسي كليا. في عام 1950 اجتمع في اسطنبول مسؤولون من جهاز المخابرات الامريكية لدراسة أوضاع الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية. كان الاجتماع يدور حول وراثة النفوذ البريطاني والفرنسي بعد حرب عالمية أنهكت بريطانيا العظمى وأضعفت الحلم الفرنسي. موجة التخلص من الاستعمار القديم وأحلام الاستقلال الوطني لم تترك لطبقة سياسية عملت في ظروف وأجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية في مصر أو العراق أو سورية سوى بقايا نفوذ تؤمنه امبراطورية عجوز بدأت تغيب عنها الشمس. ويبدو أن الرهان على الجيش في مسألة التغيير لم يكن بعيدا عن عقول المجتمعين. بروز دور الجيش في تلك البلدان أخذ يعزز نمو ظاهرة الانقلابات العسكرية. لم تكن هناك قوى مجتمعية ومدنية قادرة على أخذ زمام المبادرة أو الدفاع عن شكل دولة تعاني اضطرابات داخلية وانقساما بين قوى سياسية تقليدية مرتبطة بشكل أو بآخر بالنفوذ الاستعماري القديم. كان الانقلاب الذي قاده الضباط الاحرار في مصر بقيادة جمال عبدالناصر التي تختفي في ظل الجنرال محمد نجيب في يوليو 1952 ناجحا جدا. لم يتوقع هؤلاء الضباط أن تستلم حكومة نجيب الهلالي بتلك السهولة.. كانت مطالبهم محددة.. ولكن الانهيار السريع للحكومة والقصر أدى فيما أدى إلى زيادة سقف المطالب حتى ترحيل الملك بعد بضعة أيام. إلا أن التاريخ ايضا يؤكد أنه لولا الدعم الامريكي لذلك الانقلاب وتحييد الانجليز لما كان أمر التغيير ممكناً بتلك الدرجة من السهولة. لم تكن الدولة المصرية آنذاك دولة بوليسية قمعية أو تحكمها طبقة سياسية منسجمة وقادرة على الدفاع عن شكل النظام.. ولعل هذا ايضا سهل مهمة انقلاب الضباط الأحرار وإعلان الثورة فيما بعد. كما أن الفساد وتحكم الاقطاع ونكبة 48 في فلسطين كان لها دور في إنجاح تلك المهمة. جرت بعد ذلك مياه كثيرة في نهر مصر السياسي.. انتزع عبدالناصر زعامة العرب بعد أن انحاز لأفكار القومية العربية وخاصة مشروع الوحدة العربية التي لم تكن في وارد حركة يوليو.. إلا ان هزيمة 67 قتلت عبدالناصر قبل اعلان وفاته عام 1970. شجع انقلاب يوليو نمو ظاهرة الانقلابات العسكرية في كل من سورية والعراق والسودان وليبيا.. ومحاولات اخرى فاشلة في أكثر من دولة عربية. الجماهير العربية التي خرجت في الخمسينيات تهتف للعسكر.. خرج أبناؤهم واحفادهم في عام 2011 يهتفون ضدهم.. والزعامات الانقلابية والعسكرية التي حصدت حضورا جماهيرا كبيرا قبل خمسة عقود لم تعد تغري ابناء اولئك او احفادهم باستعادة حتى ما تبقى من رمزيتهم.. وقيم الحرية والعدالة والكرامة وحكم القانون والتعددية والديمقراطية التي كانت تشرق بصيصا قبل عهود العسكر أصبحت مطلبا ملحا لثورات الشعوب العربية التي خرجت لا تريد أكثر من حريتها واستعادة قدرتها على نفض هذا الركام المؤرق الذي أفقدها حتى قدرتها على الحلم. والذين رفعوا الزعامات على أكتافهم وطوفوا بها وحشدوا لها... رفض أبناؤهم واحفادهم أن يعتلي احدهم منصة الرئاسة إلا بحق صندوق الاقتراع الذي لا يعرف طريقاً للتزوير. ليست المشكلة في العسكرتارية العربية، ولكنها في عقل سلطوي استخدم القوة الوحيدة آنذاك القادرة على التغيير لبناء نظام شمولي سلطوي قمعي فشل في تحقيق أي من الاهداف الكبرى التي بشر بها. وليس بالضرورة ان يكون كل مشروع جنرال عسكري هو مشروع ديكتاتور، إلا أن السائد في تلك المرحلة أن صراع الأمم كان يدعم القوى العسكرية التي تسلمت زمام الامور بعد تجربة قصيرة لحكومات وطنية ضعيفة إبان او أثناء أو بعد رحيل الاستعمار. فشلت النظم العربية التي اعتلاها نظام الاستبداد في بناء اوطان محصنة من آفة التخلف والانحطاط.. حصنت نفسها فقط بأجهزة القمع والمؤامرات والصراعات التي دفعت الشعوب ثمنها الباهظ ولا زالت. المشهد العربي اليوم مثخن بآفات الجهل والفقر والصراعات الطائفية.. لم تخلف نظم الفشل فقط تلك الآفات ولكن خلفت الفساد وهو قرين الاستبداد.. حيث ترعرعت وازدهرت طبقة طفيلية وانتهازية.. ما حطم الكثير من سياج الاخلاقيات العامة. الانعتاق العربي من مرحلة معتمة للشروع في مرحلة جديدة.. لن يكون سهلا ولا متأتياً لاختلاف معطيات مرحلتين. إلا أن المؤشرات اليوم تبدو مبشرة. فهذا الجيل الذي انتفض في وجه الطاغية المتعسكر.. انتفض على مرحلة كاملة عنوانها الافقار والتعطيل وسحق الكرامة الانسانية وسلب الحرية الطبيعية التي بدونها تظل الحياة سجنا طويلا، وكابوسا خانقا. وهذا يعني ان الشعوب بدأت تعرف جيدا ما تريد. وتدرك جيدا الى أين تنحاز. تنصّب مصر رئيسا مدنيا منتخبا لأول مرة منذ ستين عاما. وتقترع ليبيا على مجلس وطني فيسلم الرجل الوديع مصطفى عبدالجليل المهمة لمجلس وطني ارتضاه الشعب واقترع على شخصياته. وتتفاعل في تونس مرحلة التغيير لصالح القوى التي تحصد اصوات الناخبين رغم كل المشاكل اليومية التي تعبر عنها فعاليات وقوى ومتطلبات تؤكد حضور الانسان في قائمة أي مشروع تغيير لتحول بين أي محاولة لإعادة إنتاج نظام قديم، وبين احلام الثورة التي افتتحت بها ربيع العرب. وتبقى الحالة اليمنية تعبيرا عن مرحلة بين البين. فهي ثورة لم تستطيع اقتلاع جذور النظام القديم وادواته ولكنها لازالت تقاوم محاولاته المتكررة لاستعادة بعض حضوره ونفوذه. أما المخاض الاكبر فهو في سورية. إنها الجائزة الكبرى لربيع العرب إذا استطاعت هذه الثورة العظيمة ان تسقط اشد واشرس النظم العربية واكثرها تدريعا لنفسه إقليميا ودوليا. التغيير الاعظم في سورية لن يجني ثماره السوريون فقط، ولكن سيظهر لبنان جديد وعراق يتحرك نحو تعددية بشروط تحول دون هيمنة فريق أو طائفة.. وكما كانت سورية حاضنة العروبة ومنبت الفكر القومي الذي امتطاه المستبدون والساقطون في حكم التاريخ والانسان.. فستكون مدنها المدمرة شاهدة على كوارث الاستبداد، الذي سيكون أعظم المحرمات في عقل جيل اكتوى بناره وعايش آثارة ودفع الثمن الباهظ للخلاص منه..