قبل عام من الآن، وفور الإعلان عن برنامج المسابقة الرسمية للدورة الفائتة لمهرجان كان السينمائي، ساد ضجيج كبير في الأوساط المعنية كان عنوانه نتفليكس. وكان وراء الضجيج كما نعرف، إشراك ما لا يقل عن فيلمين من إنتاج هذه المؤسسة التي تنتج الأفلام الكبيرة لكنها لا تعرضها في الصالات بل منزلياً، في المسابقة الرسمية. يومها صرخ أنصار السينما «النقية» وهاجوا وماجوا: كيف يمكن أن يفوز في المسابقة الرسمية، مثلاً، فيلم لن يشاهده الناس في الصالات؟ اعتبروا الأمر هرطقة ما بعدها هرطقة. ورُجم اسم تلك المؤسسة وكاد يرجم اسم المهرجان نفسه. لكن الأمور سرعان ما سُوّيت، من ناحية لأن فيلمَي المسابقة النتفليكسيين كانا مميزين سينمائياً، ومن ناحية أخرى لأن أياً منهما لم يفز. أما النتيجة فكانت طغيان اسم المؤسسة على كل فعاليات المهرجان. هذا العام أيضاً، ها هو اسم نتفليكس يقيم دنيا السينما ويشغل ناسها من جديد. ولكن هذه المرة لسبب معاكس تماماً: فتييري فريمو المدير الفني للمهرجان، وقبل أسابيع قليلة من بدء نشاطات الدورة الجديدة، أعلن بكل وضوح أنه لن يسمح بمشاركة أي فيلم نتفليكسي لن يعرض أولاً في الصالات الفرنسية، في مسابقته الرسمية. وكان واضحاً أن الكلام موجه إلى نتفليكس نفسها. وهذه التقطت الرسالة وردت بأنها سوف تسحب أفلامها من المهرجان حتى تلك التي كان يفترض أن تعرض خارج المسابقة أو في التظاهرات الأخرى ولا يقلّ عددها عن خمسة أفلام. وهكذا عاد اسم نتفليكس ليلمع ولكن بغيابها عن الدورة الحادية والسبعين، بعدما لمع العام الماضي بحضورها المباغت في الدورة السبعين. إلى الشرق الأوسط در ومع هذ يمكن القول إن نتفليكس ليست الحدث الأكبر في «كان» هذا العام، بل الشرق الأوسط هو الحدث، فالحال أن أفلاماً لمخرجين أو لمواضيع من عندنا تحتل موقعاً متقدماً على خارطة العروض الرئيسية. وذلك بدءاً من فيلم الافتتاح، حتى وإن كان فيلماً «إسبانياً». فهو إسباني لكنه من إخراج الإيراني المبدع أصغر فرهادي، الذي يحقق للمرة الثانية في أوروبا، بعد سنوات من «الماضي» (جائزة أساسية في «كان» قبل ثلاث سنوات) الذي حققه في فرنسا، فيلماً خارج بلاده. إذ ها هو صاحب «انفصال» و «بصدد إيللي» ثم «البائع» (جائزة أفضل ممثل في «كان» الفائت) يحقق فيلماً إسبانياً من بطولة الزوجين بينيلوبي كروز وخافيير بارديم جامعاً إياهما معاً للمرة التاسعة، على خطى وودي آلان وبيدرو ألمودوفار. عنوان الفيلم هو «كلهم يعرفون» وفيه يعود فرهادي، على رغم غربته، إلى موضوعه الأثير: يضع شخصياته في مأزق حياتي ليدرسها وجودياً من خلال تلك الوضعية. والشخصيتان هذه المرة زوجان إسبانيان عائدان من بيونس آيرس إلى إسبانيا للمشاركة في عرس، ليكتشفا ماضياً ما يطارد الزوجة ويحوّل الفيلم من حبكته العائلية إلى عمل تشويقي كما وُعدنا. إذا كان فيلم فرهادي يفتتح دورة «كان» بصخب كبير وتوقعات أكبر، فإن ثمة في المسابقة فيلماً إيرانياً آخر هو «ثلاثة وجوه» لجعفر باناهي الذي يبدو أنه سيكون بدوره من الأفلام المثيرة للضجيج، على الأقل نتيجة الوضع المبهم لمخرجه المغضوب عليه في شكل متواصل من سلطات بلاده، كما من جراء التساؤل الدائم حول تمكنه من تحقيق أفلامه على رغم الحظر والقمع والإقامة الجبرية. إذاً، مرة أخرى «فعلها» باناهي ولننتظر لنرى كيف ستكون النتيجة. وفي الانتظار ربما سيكون في وسعنا أن نستمتع بمشاهدة، الإيرانية المغضوب عليها في طهران هي الأخرى، غولشيفتي فاراهاني وقد ارتدت هذه المرة ثياب المناضلات المقاومات الكرديات المتصديات للمتطرفين، في فيلم إيفا هوسون الجديد «بنات الشمس» الذي صُوّر في جورجيا. إذاً ثلاثة أسماء إيرانية كبيرة مغضوب عليها ستزين سماء «كان» بعد قرابة الثلاثة أسابيع. لكنها لن تكون «الممثلة» الوحيدة لسينمات الشرق الأوسط هذه المرة. عودتان لبنانية ومصرية ففي المسابقة الرسمية أيضاً، يعود العلم اللبناني ليخفق من جديد بعدما مر ما يزيد عن ربع قرن على آخر خفقة له. وكان ذلك حين شارك فيلم الراحل مارون بغدادي «خارج الحياة» في المسابقة الرسمية ونال جائزة المحكمين مناصفة مع «أوروبا» لارس فون ترير. الحضور «الرسمي» اللبناني يتمثل هذه المرة في جديد نادين لبكي «كفرناحوم» وهو ثالث فيلم روائي طويل لها بعد «كاراميل» و «هلق لوين؟» اللذين عرضا حينها في تظاهرتي «أسبوعا المخرجين» و «نظرة ما» تباعاً، وحققا ما حققا من نجاحات وجوائز. هذه المرة تتطلع لبكي بالتأكيد الى ما هو أعلى من ذلك، وربما الى تكرار التجربة اللبنانية القصيرة التي رفعت فيلم التحريك «موج 82» (17 د.) للمخرج الشاب إيلي داغر الى السعفة الذهبية في فئته. إذن، تشارك لبكي في المسابقة الرسمية للمهرجان بفيلمها الطويل الثالث «كفرناحوم» من انتاج خالد مزنر في تجربته الأولى في الإنتاج, والفيلم من كتابة نادين لبكي وجهاد حجيلي وميشال كسرواني وموسيقى خالد مزنر. وقالت لبكي انها «سعيدة وفخورة» باختيار فيلمها الأخير «كفرناحوم» للمشاركة في المسابقة الرسمية. بقي أن نذكر أن أحداث الفيلم تدور حول صبي يثور على الحياة التي فرضت عليه ويقرر أن يرفع قضية لاستعادة حقه المسلوب. وإلى جانب لبكي، وفي التظاهرة الكبرى نفسها، فيلم عربي آخر، من مصر هذه المرة، هو الروائي الطويل الأول لصاحبه أبو بكر شوقي الذي تمكن بهذا من إعادة السينما المصرية الى المسابقة الرسمية الكانيّة بعد ست سنوات من آخر مشاركة مصرية وكانت بفيلم «بعد الموقعة» ليسري نصرالله. فقد أعلن مهرجان كان أيضاً عن اختيار الفيلم المصري «يوم الدين» في مسابقته الرسمية، لينافس فيلم المخرج أبو بكر شوقي على جائزة السعفة الذهبية بأول أفلامه الروائية الطويلة. والفيلم من إنتاج شركة Desert Highway Pictures التي أسسها شوقي بالاشتراك مع المنتجة دينا إمام، بالتعاون مع شركة فيلم كلينك (محمد حفظي) كمنتج مشارك. وبعد الإعلان عن اختيار الفيلم أعرب المخرج أبو بكر شوقي، وفق بيان مؤسسة MAD SOLUTIONS عن سعادته البالغة بعرض فيلمه الأول في مهرجان كان و «تمثيل مصر في هذا المهرجان العالمي وأن سعادته ستكتمل بعرضه في وطنه مصر». ويقول البيان ذاته إن «اختيار الفيلم خطوة مهمة لصناعة السينما المستقلة في مصر». كما أشار المنتج محمد حفظي الذي اختير أخيراً لرئاسة الدورة المقبلة لمهرجان القاهرة، إلى «تأثيرات» متعددة لاختيار الفيلم قائلاً: «لديّ أسباب عديدة للسعادة بإعلان مهرجان كان عن اختيار فيلم المخرج الموهوب أبو بكر شوقي في مسابقته الرسمية، مبدئياً لعودة السينما المصرية إلى القسم الأرفع في المهرجان بعد المشاركة الأخيرة التي سجلها فيلم «بعد الموقعة» للمخرج الكبير يسري نصرالله في 2012، أيضاً لتزايد مشاركات السينما المصرية في المهرجان خلال السنوات الأخيرة، ولكوني أحد مكونات هذه الأفلام، وأخيراً لأن الاختيار جاء لعمل أول لمخرجه، مما يعطي رسالة مشجعة للسينمائيين المصريين الموهوبين». ويتحدث فيلم «يوم الدين» من إخراج وتأليف أبو بكر شوقي عن رجل قبطي من جامعي القمامة، نشأ داخل مُستعمرة للمصابين بالجُذام، ويغادر هذه المستعمرة وينطلق برفقة مساعده وحمار خلال رحلة عبر أنحاء مصر بحثاً عن عائلته. والفيلم من بطولة راضي جمال وأحمد عبد الحفيظ، وتعاون فيه شوقي مع مدير التصوير الأرجنتيني فيديريكو سيسكا، المونتيرة إيرين غرينويل، والموسيقي عمر فاضل الذي ألف الموسيقى التصويرية للفيلم. وأبو بكر شوقي مخرج، مؤلف ومنتج مصري نمساوي قدم عدداً من الأفلام الوثائقية، من بينها الفيلم الحائز على العديد من الجوائز المستعمرة (2009) الذي تناول حياة مرضى مستعمرة الجُذام في منطقة أبو زعبل. متسلل إلى الكوكلكسكلان بهذا الحضور العربي والشرق أوسطي إذاً، من المؤكد أن هذه الدورة لمهرجان كان، ولا سيما في مسابقته الرسمية، ستتخذ ملامح مفاجئة بعض الشيء، وبخاصة ان ذلك يتواكب مع ما يشبه الغياب للسينما الأميركية التي اعتادت ان تكون كلية الحضور. وبالتالي لا بد من الإشارة الى ان الحضور الأميركي في المسابقة الرسمية سيقتصر على فيلمين هما على أي حال من تلك التي تبدو منتظرة أكثر من غيرها: فيلم «الكوكلكسكلان الأسود» لسبايك لي، عن رواية بالعنوان ذاته تتحدث عن رجل أسود تمكن من التسلل الى داخل احدى مجموعات هذه المنظمة العنصرية البيضاء في كولورادو؛ ثم فيلم «تحت البحيرة الفضية» لدافيد روبرت ميتشل الذي يتحدث عن فتى لامبال بشيء يجد نفسه فجأة وقد تلبّس دور «تحري» يحقق في اختفاء جارة حسناء له. وفي المقابل إذا كان هذان العملا سيبرزان في المسابقة، فإن عروض خارج هذه الأخيرة ستشمل، الى فيلم فيم فندرز المنتظر بقوة عن بابا الفاتيكان، الفيلم التجاري الجماهيري الضخم «سولو، حرب النجوم» الذي حققه رون هوارد من انتاج جورج لوكاس، ليحكي فصلا آخر من فصول تلك الملحمة يستبق أحداثاً معروفة. غودار في الأدغال العربية ولئن كان الحضور الفرنسي، في المسابقة وخارجها، يبدو متواضعاً هذه المرة، لا شك في أن جديد جان لوك غودار وعنوانه «كتاب الصور» سوف يطبع هذا الحضور من ناحية، لينضم من ناحية أخرى الى «المسلسل الشرق أوسطي» وذلك لأن المخضرم الفرنسي/السويسري الذي يبدو انه عاد بقوة عن اعتزاله المعلن، للمرة الألف، أراد أن يدلي بدلوه في السياسات الشرق أوسطية، ولكن في تركيبة سينمائية لا يملك غيره أسرارها. وهو أمر سنعود إليه في كتابات مقبلة بالطبع. وفي انتظار ذلك ننتظر ما ستعطينا إياه هذه الدورة «الكانية» التي لا بد من التأكيد منذ الآن أن غرابتها لا تقتصر على ذلك الحضور الشرق أوسطي الكبير فيها ولكن كذلك على تغيير مواعيد افتتاحها وختامها للمرة الأولى منذ عقود، والتبديل في أنظمتها كما في القوانين التي كانت خاصة بالصحافيين... ما يدفع الى التساؤل بعد كل شيء: «كان» إلى أين؟