في الدورات الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي، كان يحدث أمر لافت: هناك دائماً في كل دورة عدد لا بأس به من أفلام تخوض المسابقة الرسمية التي تعتبر التظاهرة الأساسية. ولكن، من بين تلك الأفلام هناك خمسة أو ستة تبرز متميّزة منذ لحظات عرضها الأولى وتروح تخمينات الجوائز الأساسية في اتجاهها، ليس فقط بفضل تميّزها الواضح دائماً، وإنما لأن ما تبقى من عروض لا يرقى إلى مستواها. وإلى هذا قد تكون هناك أيضا مفاجأة أو مفاجأتان أو أكثر تتمثل في تحف سينمائية استثنائية، حتى وإن كان يحدث أحياناً، أمام أسف النقاد ومحبي السينما الحقيقيين، أن يتجاهل المحكّمون تلك التحف فتبقى للتاريخ وتتلطخ «سمعة المهرجان» بما ليس في صالحه. في اختصار، خلال السنوات الفائتة، كان يبدو واضحاً بعد عرض معظم الأفلام أن الحصاد الكبير قليل. وبالتالي أن مهمة لجنة التحكيم، لن تكون عسيرة في الاحتفال الختامي. آمال كبيرة حتى الآن، قبل أيام قليلة من افتتاح الدورة الجديدة لهذا الذي يعتبر أكبر وأهم مهرجان سينمائي في العالم، حتى وإن حصّل منافساه «البندقية» و «برلين» أحياناً على أفلام تفوق قيمتها ما يَحصل هو عليه، حتى الآن إذاً، قد يكون من الصعب على المرء أن يخمّن نوعية ما سوف يعرض، فالعدد الأكبر من الأفلام لا يزال عصيّاً على المشاهدة حيث أن أصحابه يحيطونه – كالعادة – بأكبر قدر من التكتّم. غير أن في إمكان المتابع، مع هذا، أن يخمن منذ الآن وإن بشيء من الحيطة، أن ما تعدنا به هذه الدورة، في المسابقة الرسمية الأساسية، كما في بقية التظاهرات مثل «نظرة ما» و «أسبوعي المخرجين» – الذي يظل هامشياً بالنسبة إلى المتن الرئيس للمهرجان، والذي سنعود إليه بالتفصيل في الأسبوع المقبل طالما أنه يستحق عادة وقفة خاصة – و «أسبوع النقاد» وعشرات التظاهرات الثانوية الأخرى، قد لا يحمل مفاجآت كبيرة تنهض بفيلمين أو ثلاثة أو أكثر إلى تاريخ السينما الكبير وتحسم الأمور منذ البداية، كما يحدث بين الحين والآخر. ولكن في المقابل لن يكون صعباً القول منذ الآن أننا في الإجمال موعودون بدورة كبيرة قد تحمل قدراً لا بأس به من التجانس في المستوى على الأقل... أما الحكم على هذا منذ الآن فيعود إلى أن المشاركين في العروض الأساسية للدورة هم من أولئك الذين باتوا يعتبرون – وغالباً بفضل مهرجان «كان» نفسه – كلاسيكيّي السينما المعاصرة في العالم. ونقول هذا حتى في ظل غياب كبار كان البعض يتوقع مشاركتهم. فوودي آلن لن يحضر بفيلمه الجديد. ولارس فون ترير لن يحضر – وربما لأنه لم ينجز جديده الموعود بعد، ولسنا ندري ما إذا كانت مشاركته ستكون مستحبة، حتى لو فعل، بعد البيان الذي أصدرته ضده إدارة المهرجان قبل عامين بسبب تصريحات له اعتبرت حينها «معادية للسامية»-، وكذلك استنكف تيرنس ماليك عن إرسال فيلمه الجديد (الثالث خلال عامين بعد مسيرة ثلث قرن لم تنتج سوى خمسة أفلام!!)...أما وانغ كار واي فهو عرض فيلمه الجديد قبل شهور بعدما تأخر عن «كان» الماضي. كل هؤلاء الكبار غائبون كما بتنا نعرف، غير أن هذا الغياب لن يعني «ضعفاً» في الدورة الكانية الجديدة... لأن الباقي ليس هيّناً، بل هو من القوة إلى درجة أن بعض الأقلام تساءلت منذ إعلان أسماء الأفلام المشاركة في «كان» قبل أسبوعين وأكثر: ما الذي سيبقى للبندقية إذاً؟. طبعاً لن نجيب هنا على سؤال لن نعرف جوابه إلا خلال أيام «كان» ولكننا نعود لنفترض أن «كان» حظي بما يمكن اعتباره حصة الأسد من الحصاد الإنتاجي السينمائي للشهور الأخيرة. ونحن إذ نقول هذا نقوله ونحن نستعرض البرنامج النهائي لعروض المهرجان. فحين يجتمع رومان بولانسكي والأخوان جويل وايتان كون، وباز ليرمان (هذا خارج المسابقة ولكن في العرض الأسمى: عرض الافتتاح المكرس لفيلمه «غاتسبي العظيم» عن رواية سكوت فيتزجيرالد التي سبق اقتباسها إلى السينما والتلفزة، غير مرة بل حتى اقتبسها المخرج المصري محمد خان في فيلم «الرغبة» الذي كان واحداً من أول إبداعاته) وجيمس غراي وجيم جارموش وألكساندر باين وستيفن سودربرغ وباولو سورنتينو ونيكولاس وندنغ ريفن في تظاهرة واحدة، آت كلّ منهم بفيلم لم يتوقف الحديث عنه والتوقع في شأنه منذ شهور، يمكن لهواة السينما الكبيرة أن يأملوا خيراً... ويزداد مفعول هذا الأمل حين تنضاف إلى هذا الجمع الجميل أسماء أربعة أو خمسة مبدعين فرنسيين وغيرهم من الآسيويين وحتى الشرق أوسطيين في التظاهرة نفسها إليهم. ونتحدث هنا، بالطبع، عن آرنو ديبليشين وفرانسوا اوزون وعبد اللطيف كشيش وأصغر فرهادي وجيا جنكي والتشادي محمد صالح هارون وتاكاشي مييكي. هؤلاء من الذين أثبتوا في سنوات «كان» وغيره الفائتة حضوراً سينمائياً مشرفاً... يقيناً أن هذا كله يعد بالكثير وبأن علينا من الآن وصاعداً أن نعتاد الحديث عن أفلام تحمل عناوين تبدو اليوم آتية من العدم، لكنها ستشغل الصحف والأقلام والعيون الشاخصة خلال الشهور المقبلة، وربما السنوات أيضاً... من يدري، عناوين مثل «جيمي بي.» (ديبليشين) و «المهاجر» (غراي) و «لمسة خطيئة»(جانكي) و «حياة آديل- الفصلان1و2» (كشيش) و «نبراسكا» (باين) و «فينوس ذات الفرو» (بولانسكي) و «خلف الكنديلابرا» (سودربرغ) و «الآلهة وحدها تغفر» (وندنغ ريفن). للنساء نصيب... هناك كل هذا وما زلنا نتحدث عن أفلام المسابقة الرسمية وحدها. لكن هذه المسابقة ليست كل شيء كما نعرف، حتى وإن كانت التظاهرة الأهم. بل ثمة ضمن إطار هذه التظاهرة الرئيسة، ولكن خارج المسابقة، أفلام أخرى لا تقل أهمية عن أفلامها عادة، بل تحمل مرات كثيرة أسماء بعض كبار السينمائيين الذين يفضلون ألا يخوضوا لعبة التباري. والعروض في هذا المجال تحمل هذه المرة تواقيع ذات مكانة إلى جانب تواقيع ستكون لها مكانتها من الآن فصاعداً... فهناك ستيفن فريز الذي يأتي بفيلم عن الملاكم الأسطوري محمد علي كلاي وهناك جوني تو («التحري الأعمى») وغيوم كاني – صاحب سعفة ذهبية قبل سنوات – بجديده «روابط الدم» وجيمس توباك في جديده « أُغوي بها وهُجرت» بين آخرين. وفي تظاهرة «نظرة ما» التي تعتبر الثانية من حيث الأهمية بعد المسابقة الرسمية ولها هي الأخرى جوائزها ولجنة تحكيمها – راجع حول المحكّمين مكاناً آخر في هذه الصفحة -، هناك مجموعة لا بأس بها من الأفلام التي تبدو منذ الآن لافتة إلى حدّ كبير، ولا سيما إن عرفنا أن الافتتاح سيكون بفيلم صوفيا كوبولا الجديد «ذا بلنغ رينغ»، وهو أول افتتاح بفيلم من إخراج امرأة منذ زمن، علماً بأنه إذا كانت أصوات كثيرة قد ارتفعت شاجبة كون المسابقة الرسمية تقتصر على مشاركة امرأة-مخرجة وحيدة هي فاليري بروني تدسكي – أخت كارلا وسلفة نيكولا ساركوزي -، فإن «نظرة ما» تبدو معوّضة بشكل جدي في هذا المجال: قرابة نصف المعروض هنا من إخراج نساء يحملن أسماء إما صاخبة أو جديدة سوف تصخب بعد حين، مثل كلير ديني («الأوغاد») و «كاترين جيبي («انبعاث») وفلوريا غولينو («عسل») وكلوي روبيشو («ساره تفضل السباق»)...هؤلاء النساء وغيرهن سيشكلن في هذه التظاهرة منافسات صلبات بالتأكيد للذكور الذين أتوا من أنحاء عدة من العالم ليعرضوا جديدهم. ومن بين هؤلاء هذه المرة الفلسطيني هاني أبي أسعد الذي، بعد سنوات من النجاح الكبير الذي كان حققه فيلماه السابقان «عرس رنا» و «الجنة الآن»، ها هو يخوض السباق بجديده «عمر».. وفي هذا السباق لن يكون أبي أسعد الشرق أوسطي الوحيد إذ هناك أيضاً العراقي الأصل المبدع الكردي هاينر سليم الذي يعود بعد أعمال متألقة حققت له ولسينماه سمعة عالمية خلال السنوات السابقة بجديد يحمل عنواناً يبدو كالبرنامج الكامل ويعد بالكثير: «أرضي... أرض البهار الحلو». وإلى هذين ثمة في المسابقة نفسها أفلام لجيمس فرانكو المنتقل من التمثيل إلى الإخراج في طموح دفعه – كما يدل عنوان فيلمه على الأقل، «فيما أنا مستلق احتضر» – إلى الدنو من أدب ويليام فوكنر الذي يبدو عادة عصياً على كبار المتمرسين في الإخراج السينمائي. والحقيقة أن فرانكو يؤمّن بهذا – إلى جانب الفرنسي آرنو دي باليير صاحب «ميخائيل كولهاس» المشارك في المسابقة الرسمية – حضوراً ما للأعمال الأدبية في دورة «كانية» يبدو حضور الأفلام المنطلقة من عوالم الموسيقى – وتحديداً موسيقى الروك من طريق أفلام تحمل تواقيع جويل وايتان كون وجيم جارموش بين آخرين -، أكثر وضوحاً فيها... وطبعاً كلّ هذا الذي يبدو اليوم تكهنياً سوف يزداد وضوحاً بعد عرض الأفلام ليعبّر عنه في رسائل لاحقة، رسائل تتوقف عند العديد من الأفلام والتظاهرات الأخرى بما في ذلك العروض الاحتفالية بالسينما الهندية لمناسبة مئويتها، وعروض «كلاسيكيات السينما» التي تبدو منذ الآن لكثرتها، وكأنها جعلت من دورة «كان» هذه المرة نادياً للتثقيف السينمائي يتمحور نشاطه من حول تاريخ السينما بقدر ما يتمحور من حول حاضرها. وربما يجدر بنا للتيقن من هذا أن نتأمل البرنامج الخاص بهذه الكلاسيكيات: فهناك عروض تمتد من «الإمبراطور الأخير» لبرناردو برتولوتشي إلى «التفصيل الأخير» لهال آشبي و «كليوباترا» لجوزف مانكفتش، ومن «مانيلا» للراحل لينو بروكا إلى «الملكة مارغو» لباتريس شيرو، ومن «شمس ساطعة» – عن رواية باتريسيا هايسميث – لرينيه كليمان إلى «الحسناء والوحش» لجان كوكتو، مروراً بأعمال شهيرة لجاك ديمي وماركو فيريري وألفريد هتشكوك (الرائع «فرتيغو» الذي هو هنا ربما للاحتفال بكونه نال هذا العقد مرتبة أفضل فيلم في تاريخ السينما في استفتاء صاخب لمجلة «سايت أند صاوند» الإنكليزية زائحاً عن عروشها أفلاماً مثل «المواكن كين» و «الدارعة بوتمكين و «قواعد اللعبة»...) وساتياجيت راي وآلان رينيه... واللائحة تطول. إن كثراً قد يرون في كثرة هذه العروض التاريخية الكلاسيكية مبالغة، وكثراً قد يحتجون على كون الإنتاج الفرنسي يطغى على عروض المسابقة الرسمية – نحو ثلث العروض – كما احتج كثر على شبه الغياب الأنثوي في المسابقة نفسها-، وكثر قد لا يجدون مبرراً لمعرض الرسوم الكاريكاتورية – حول السينما – الذي يقام في أروقة قصر المهرجان تحت إشراف رسام صحيفة «لوموند» الشهير بلانتو، وذلك تحت شعار الحرية وانطلاقاً من كون مهرجان «كان» «ملاذاً للمضطهدين في بلادهم»، كما أشار رئيس المهرجان جيل جاكوب في تقديمه لهذه التظاهرة الكاريكاتورية... ولكن هل ستهمّ كل هذه الاحتجاجات كثيراً، أمام عيد سينمائي حقيقي يتواصل اثني عشر يوماً من العروض ثم شهوراً طويلة من السجال والمناقشات والحديث عن الأفلام وأصحابها وربما عن خيبات الأمل من أحكام لجان التحكيم في نهاية الأمر؟ التحكيم بين سبيلبرغ جين كامبيون وفينتربرغ حتى وإن كان بعض الأصوات ارتفع في احتجاج دام اياماً قليلة، قبل شهور، حين تمّ الإعلان عن ان المخرج الأميركي ستيفن سبيلبرغ سيكون هو رئيس لجنة التحكيم للدورة السادسة والستين لمهرجان «كان» السينمائي، بحجة ان سبيلبرغ «ليس من نمط المخرجين المبدعين الذين اعتاد مهرجان كان أن يتخذهم رؤساء لمحكّميه» (!)، فإن هذه الأصوات التي اعتبرت ناشزة سرعان ما صمتت حين أجمع عالم النقد السينمائي الجادّ وأهل المهنة على ان المهرجان «لم يخطئ في اختيار سبيلبرغ بل اخطأ في انتظار كل هذه السنوات قبل ان يختاره»... اليوم ها هو صاحب تلك الافلام الناجحة تجارياً وجماهيرياً بالتالي مثل «تان تان» وسلسلة «انديانا جونز» و «الفك المفترس» و «الحديقة الجوراسية»، المتضافر في شخصه مع مبدع روائع مثل «امبراطورية الشمس» و «اللون القرمزي» و «لائحة شندلر» و «انقاذ المجند رايان» و «مبارزة» و «محطة الوصول»... وغيرها، ها هو يستعد لخوض هذه التجربة الجديدة في مساره السينمائي الطويل، تجربة الحكم على افلام مبدعين آخرين والفصل بينها... فالحال ان هذه المهمة ليست بالمهمة السهلة ولا سيما في دورة كدورة هذا العام يبدو انها تتميز بمستوى متساوٍ لأفلامها، وبحضور كبار المبدعين الذين لا شك ان كثراً من نقاد العالم يعتبرون بعضهم اكثر اهمية في عالم سينما اليوم من سبيلبرغ نفسه... مهما يكن لن يخوض سبيلبرغ المهمة وحيداً وإن كان من المتعارف عليه في تحكيميّات «كان» ان لرئيس اللجنة الرأي المهيمن في الأحكام النهائية. فثمة الى جانبه في لجنة تحكيم المسابقة الكبرى، التي – وكما نعرف – تشخص كل الأبصار اليها في ليلة الختام، اربعة من ابرز مخرجي زمننا الراهن: اليابانية ناوومي كاواسي، والإنكليزية لين رامزي، والصيني - الأميركي آنغ لي واخيراً الروماني الفائز غير مرة في «كان» كريستيان مونجيو. ولاستكمال هذه اللجنة المرموقة هناك من الممثلين، الفاتنة الأسترالية نيكول كيدمان وزميلها الفرنسي دانيال اوتاي والممثلة الهندية فيديا بالان اضافة الى الفنان النمسوي المميز كريستوف وولتز الذي حقق في اول فيلمين مثلهما خارج بلاده خلال السنوات الأخيرة نجاحاً كبيراً، مرة حين نال جائزة كان الكبرى لأفضل ممثل عن «اوغاد سيئون» لكوينتن تارانتينو، ثم حين نال ذلك النجاح الكبير الذي نعرف في جديد تارانتينو نفسه «جانغو طليقاً» اما بالنسبة الى مسابقة «نظرة ما» فإن رئاسة لجنة التحكيم فيها اُسندت الى المخرج الدنماركي توماس فيندربرغ، احد اقطاب تيار الدوغما الى جانب لارس فون ترير، والذي كان فيلمه المشارك في «كان» العام الفائت «الصيد» قد امن جائزة افضل تمثيل رجالي لبطله مادس ميكلسن، هذا فيما ترأس المخرجة جين كامبيون (فيلمها الرائع «البيانو» فاز بسعفة مهرجان «كان» قبل نحو عشرين عاماً) متجنبة تحكيم مسابقة الأفلام القصيرة.