من الطبيعي أن تحركنا المشاعر حين نتحدث عن النموذج الأوروبي في تحوّله الجذري من الانحطاط وهيمنة الكنيسة وانتشار الخرافة وعداء الحياة وغلبة شريعة الغاب على شريعة القانون، إلى قارةٍ هي حلم الكثيرين بنماذجها الديموقراطية المتعددة، وبكل ما ضمته من تنظيمٍ للحياة والسياسية وكل ما يمسّ رفاهية الإنسان، تلك الصورة بمثابة نموذجٍ يداعب خيالنا كلما تحدثنا عن التغيير، غير أن الثورات العربية الحالية وبمقارنةٍ راهنةٍ بينها وبين النموذج الأوروبي -الذي تكوّن وتخلّق على مدى ثلاثة قرون- سنعثر على إفلاس التجربة الفكرية والوجودية في الثورات العربية، حيث فرّغت من مضمونها، وبرؤية الذي يجري في مصر سنجد أن الثورات صارت أهم من الدولة، وأقوى من المجتمع، صارت الثورة –فقط-من أجل الثورة لا من أجل الإنسان. دائماً ما يصدمنا الواقع بعد طول حلم، حين غزت الولاياتالمتحدة العراق وأسقطت نظام صدام حسين تنادى البعض بقرب ولادة ديموقراطيةٍ أخّاذة تكون نموذجاً للمنطقة، غير أن الذي حدث سقوط «شبه دولة صدام حسين» ونموّ «دولة الميليشيات» وانهارت بنية العراق بشكلٍ بشع. بعد سقوط نظام بن علي ونظام حسني مبارك برزت الإثنيات والعصبيات، وبما أننا لم نستطع عربياً أن نؤسس دولةً بالمفهوم السياسي، فإن «شبه الدولة» التي كانت حاضرةً في العالم العربي مع كل جرائمها وأدوائها ومن خلال سطوتها الأمنية المعنوية كانت تخفف من إمكانية انتشار الطائفية، ذلك أنها تخاف على نسيج المجتمع من التحلل لئلا يتحلل تبعاً لذلك انهيار النظام السياسي؛ بسقوط الأنظمة واشتباك الثوار مع رموزها انفجرت أنابيب الطائفية سائحةً مهددةً كل المدن بالتقهقر والضياع، والتيه والفوضى. حين واجهتٍ أوروبا سياسية القمع في النصف الأول من القرن ال19 ظهرت حركاتٍ ثورية في عام 1848 وهو ما عُرف ب»عام الثورات في أوروبا» غير أن الفيلسوف الدانماركي كيركغارد ومن خلال أسئلته وفحصه أطلق على سنة الثورات تلك وصف: «عام الكارثة»! ذلك أن العبرة بالثورة لديه ليست بالثمار الشكلية التي تجنيها الجموع، ولا بالانتصار المعنوي من خلال تحقيق أهدافٍ رمزية من دون رؤيةٍ مستقبلية، بل هدف الثورات -الذي لم يتحقق في «عام الكارثة»- أن تكون ذات مردود إيجابي على الفرد، كيركغارد هدفه «الإنسان الفرد، والذاتية هي الحقيقة لديه في المجال الفلسفي» إنها رؤية نزّاعة نحو تأسيسٍ واقعٍ تنتشر فيه رؤى تحقق قيمة الفرد، أما الثورات التي تعيد فوضى الجموع إلى المشهد فليست محببةً لديه لهذا اعتبر ذلك العام كارثياً. بعض الثورات كان يمكن أن تكون نماذج جيدة بسببٍ من هدوءٍ انتهت عليه مثل مصر وتونس؛ كان يمكن أن تثمر تلك التجارب عن مرحلةٍ أخرى جديدة، غير أن استمرار «سحر الثورة» و»هوس التظاهر» أزهق التجربة، كان إسقاط النظامين المصري والتونسي ساحراً في شكله وتناوله الإعلام بطريقةٍ سلبت ذوي العقول أسئلتهم، غير أن ذهاب السحر وعودة السؤال فرزت بين الخيال والواقع، إن الفرح الذي يشعر به المتابع وهو ينظر إلى جموع المتظاهرين ليس فرحاً بالمظاهرة ذاتها، وإنما بسبب ما يمكن أن تؤول إليه حين يسقط النظام وتأتي أنظمةً ديموقراطية بعد أن ينظّف الثوار الشارع برحيل الرئيس على طائرته. إن الانفصال بين الخيال والواقع، هو الذي جعل سحر الثورات يجتاح العقول، لقد أخليت العروش للجماعات المتشددة الراديكالية المتطرفة، وعقمت المجتمعات العربية منذ قرونٍ عن إنتاج نماذج فكريةٍ مختلفة، بل وارتهنت لنموذجٍ أصولي فتّاك. ربما تذوق بعض المجتمعات المتطرفة نيران تضييقها على التيارات المدنية وعلى المفكرين والأدباء وناشري النور، فقط حين يجربون حكم الأصوليين الكارثي! [email protected]