مظاهرات حاشدة، وحنين إلى الحرية والعدالة والديموقراطية، هذا هو شكل الحراك الخارجي الذي يجري في المنطقة، الملايين تهتف بشعاراتٍ مطالبةً بسقوط هذا النظام أو ذاك، ولا تنتهي عند طلبٍ أو هدف، حيث تتناسل الأهداف والشروط حتى بعد سقوط النظام واجتثاث حزبه. تلك الأحداث لا تطرح أجوبةً بقدر ما تفتح أسئلةً كبيرة ترتبط بالمجتمعات الثائرة في العالم العربي، والتي تنطلق من قهر منبعث من «مظلومية دامية» تسببت بها الأنظمة. انطلقت بشراسة من خلال الشارع لتصل إلى قصر الرئيس، غير أن سقوط نظامين في مصر وتونس، عمّقا من هوة الأسئلة التي نعيشها حاضراً، أعنفها السؤال المرتبط بالشخصية العربية التي لم تعرف بعد تشكل الدولة، ولم تنعم ببلورة ناجحةٍ للديموقراطية، إن هذا الإفلاس والعجز التاريخي عن ولادة أي نظام ديموقراطي أو تشكيل أي دولة بالمعنى المدني يعود بعمقه إلى إرث ثقافي لا يزال متسيّداً الحركة الاجتماعية بشتى أطيافها. إن العدة الفكرية والفلسفية النزّاعة نحو السؤال عن مركز الإنسان في محيط وجوده والتي مكّنت الثورات الأوروبية من النجاح لم تأت من سطحية الشعارات، بل تكوّنت من تجارب المعرفة، وأسئلة نابهة نزعت السحر عن العالم لتجعل من الإنسان فرداً بيكنونته الذاتية يتأمل العالم وينسج صورته في أذهان المجتمع من خلال إشعال نيران الأسئلة على هشيم الأجوبة، لعلّ الأدمغة التي رضيت بالجهل تتحرر من سجنها. إن المفاهيم الفلسفية الكبرى لم تعد تشكيل المعارف فحسب، وإنما مكّنت الفرد من إعادة تشكيل معنى ذاته وموقعه من العالم وطوّرت طرق الاتصال الاجتماعي والقوانين والمؤسسات وشكّلت المعاني المدنية تبعاً للتنظيم الفكري الذي منحته لتلك العقول، إن مفهوماً فلسفياً مثل «الكوجيتو» الديكارتي أعاد تشكل الذات والفكر والوجود، ومنح الإنسان نفسه فرصة الأسئلة في مثلث المفهوم ليبحث بالتجربة والحوار والطرح والعيش في الأنا من خلال الفكر وهي تسعى في الوجود، إنها ضربة ديكارت الكبرى «أنا أفكر إذن أنا موجود»، وهو مفهوم درسناه عربياً لكننا لم نعشه، ولم يهزّ كينونتنا كما فعل في الأوروبيين من قبل. إن إعادة صياغة الواقع لن تتم من دون هدم السجن الذي يعيشه الفرد من خلال الأفكار التي يجرّها معه في كل مكانٍ من دون اختبارها من خلال أسئلة الشك التي تطهّر الذهن مما علق به من أفكار قديمة تساهم في رسم واقعه الاستبدادي من دون أن يشعر، إن الحرية حين تنفصل عن ممارسة الإنسان لوجوده الفكري الحر لن تكون سوى شعاراً عاطفياً يتنادون به، بدليل أن انحسار الأنظمة لم يثمر عن واقعٍ أفضل بل عن مآزق أخرى ولدها التغيير الشكلي من دون ممارسة أي تغيير معنوي. إن «وهم الحرية» كان قد أشار إليه «ليبيانسكي» حيث يربطه بالتحرر من الحتميات والشروط ومراجعة الفكر والسلوك، حين يكون الفرد حراً بذاته ضمن مجتمعٍ تمكّن من نزع السحر والقداسة عن أفكاره فإنه حينها يتجه نحو صياغة واقعٍ حر، إن الذات المستعبدة المحكومة بسجن الأفكار القديمة لا يمكنها أبداً أن تتحرر أو تصنع عالماً حراً جديداً، إن الذاوات المستعبدة لا تنتج إلا واقعاً سياسياً ديكتاتورياً. وهذا هو التحدي الرئيسي اليوم أن تساهم هذه الثورات في تبرئة الإنسان من أغلاله الذاتية، وأن تكون طريقاً نحو الأمام، لا أن تنتج نماذج قديمة كنا نظنّ أنها باتت من التاريخ. إن إعادة قراءة الحدث بعيداً عن سجالات العاطفة يتيح لنا أن نستشرف بروية المآلات الخطيرة الممكنة، بدلاً من الغرق في بحر وهمٍ لجّي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب. [email protected]