تختلف التصريحات الإسرائيلية والمواقف المعلنة تجاه الثورات العربية في شكل يدعو إلى التساؤل: هل ترى الدولة العبرية أن ما جرى سيصب في خانة مصالحها الاستراتيجية في المنطقة على المدى الطويل؟ أم أن هذه الثورات ستكون إيذاناً بنقلة نوعية للموقف العربي في الصراع مع إسرائيل لأن تحرير إرادة الشعوب يمكّنها من تحرير أرضها ومواجهة عدوها من منطلق وطني قطري ومنطلق قومي عربي في ذات الوقت؟ لو تتبعنا ردود الفعل الإسرائيلية منذ اندلاع الثورة التونسية لاكتشفنا أن إسرائيل لم تحسم أمرها تماماً في ما يتصل بردود فعلها تجاه ما جرى على الساحة العربية في الشهور الأخيرة. وسنناقش عبر النقاط التالية المواقف الإسرائيلية المختلفة تجاه الثورات العربية ودوافعها وردود فعلها المحتملة خصوصاً على المدى الطويل. دعنا نبحث الأمر: أولاً: تفاوتت طريقة استقبال الموقف الإسرائيلي من الثورات العربية من بلد الى آخر، فالمصريون يعتقدون أن إسرائيل لم تستقبل ثورتهم بالقبول المتوقع من دولة تتحدث عن الحداثة والديموقراطية، بينما اختلف التقييم السوري للموقف الإسرائيلي فالنظام الحاكم في دمشق يرى أن الدولة العبرية تحاول أن تحصل في ظرف استثنائي على ما لم تحصل عليه في ظروف طبيعية، بينما تزعم بعض قطاعات المعارضة السورية أن إسرائيل حريصة على بقاء نظام الرئيس الأسد لأنه أثبت تاريخياً قوته وقدرته على إحداث الاستقرار وتحمل مسؤوليات الوضع الحساس على الجبهة السورية. جرى ذلك في الوقت الذي أعلن رئيس اليمن أن ما يجري في بلاده هو جزء من «مؤامرة أميركية» وأن «غرفة عمليات» هذه الأحداث مركزها تل أبيب، في إشارة واضحة إلى الدور الإسرائيلي في أحداث اليمن من وجهة نظر رئيسها، أما الثورة الليبية فقد زعم عدد كبير من الثوار أن إسرائيل قدمت تقنيات عسكرية حديثة للعقيد القذافي حتى يتمكن من قمع التمرد وإنهاء الثورة. وهكذا نجد أن تفسير رد فعل إسرائيل مختلف من منظور إلى آخر. ثانياً: أعلن مسؤولون إسرائيليون كبار أن الرئيس المصري السابق حسني مبارك كان بمثابة «كنز استراتيجي» للدولة العبرية مستدلين على ذلك بموقفه من الحصار على غزة وإغلاق معبر رفح والتعاون الأمني المستمر بين مصر وإسرائيل في شكل مباشر أو مروراً بالولاياتالمتحدة، واللافت للنظر أن هناك تحليلاً يتبناه كثير من المصريين والعرب يرى أن الولاياتالمتحدةسعيدة بما جرى وما يجري لأنها ترى أن التحول نحو الديموقراطية يعتبر الضمان الأول لضرب ما يسمى «الإرهاب» خصوصاً أن اميركا تظن أن تفجيرات 11 ايلول (سبتمبر) 2001 هي ابنة شرعية للنظم الحاكمة في المنطقة العربية، ولذلك فإن مناخ الحريات القادم سيوقف عملية تفريخ عناصر إرهابية أو إفراز مجموعات عنف تضرب المصالح الغربية كثأر تاريخي للسياسات الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في بعض دول المنطقة. ثالثاً: أثبتت الثورة الرائدة في تونس أن إسقاط نظامٍ بوليسي كان يبدو محكم القبضة على شعبه أضحى أمراً ممكناً ولعل ذلك هو الذي شجع المصريين وحدد توقيت ثورة «ميدان التحرير» خصوصاً أن هناك تشابهاً كبيراً بين النظامين السابقين في مصر وتونس، وأظن أن الرئيس السابق بن علي لم يكن مستعداً للدخول في مواجهة سياسية مع إسرائيل بل كان يمثل نموذجاً طيّعاً للأنظمة المتعايشة مع سياسات الدولة العبرية. ولن ينسى التاريخ الفلسطيني مصرع القيادات الفلسطينية على أرض تونس ومنهم الشهداء «أبو جهاد» و «أبو إياد» و «أبو الهول» عندما استضافت تونس منظمة التحرير الفلسطينية وجامعة الدول العربية لسنوات عدة في ثمانينات القرن الماضي، حيث تردد حديث هامس في الأوساط العربية والفلسطينية عن تعاونٍ سري بين عصابة الاغتيال الإسرائيلية وبعض دوائر الأمن التونسي. خلاصة القول في هذه النقطة إن نظام بن علي لم يكن يعكس الروح الحقيقية للشعب التونسي تجاه إسرائيل وسياساتها الاستفزازية، لذلك فإنني أزعم أن إسرائيل لا تستريح لما جرى في تونس، فربما تفرز الثورات العربية على المدى الطويل مناخاً تستريح إليه الدولة العبرية وإن كنت أشك في ذلك كثيراً خصوصاً أن معظم الثورات العربية الأخيرة مرتبطة بصحوة دينية لا تتحمس للتعامل مع إسرائيل. رابعاً: تمثل الثورة اليمنية بعداً خاصاً لدى إسرائيل لأسباب تتصل بتأثيرها على استقرار الجزيرة العربية وموقع اليمن الإستراتيجي المتحكم بخليج باب المندب، فضلاً عن الحديث الذي يدور حول وجودٍ ملموس لبعض عناصر «القاعدة» هناك، كما أن في اليمن جالية يهودية تعرضت في السنوات الأخيرة لبعض الضغوط التي حاولت إسرائيل استخدامها بشكلٍ إعلامي واسع، ونحن نرى أن سقوط نظام الرئيس علي عبدالله صالح سيثير فضول إسرائيل للتعرف الى النظام الجديد والوضع الذي ستستقر عليه الأوضاع في اليمن خصوصاً في ما يتصل بالعلاقة الجديدة بين صنعاء ومجلس التعاون الخليجي وتأثير ذلك على الدولة الخليجية الأكبر وأعني بها المملكة العربية السعودية، واليمن يمثل قنبلة موقوتة قابلة للانفجار العشائري والمذهبي فضلاً عن حساسيات الجنوب تجاه الشمال، لذلك فإن ما يجري على أرضه يمثل نموذجاً لاحتمالاتٍ كثيرة سيتكون منها المشهد العربي العام بعد أن تضع الثورات أوزارها. خامساً: ظلت ليبيا مؤثرة بالسلب والإيجاب في الساحات العربية والإفريقية والإسلامية بل والدولية على امتداد السنوات الأربعين الماضية وعندما اندلعت الثورة في المنطقة الشرقية من ليبيا وامتد تأثيرها غرباً وجنوباً أصبحنا أمام مفاجئة كبيرة تكاد تؤدي إلى تدويل الصراع على الساحة الليبية وتفتح ملفاً جديداً لبؤرة صراعٍ دامية قد يطول أمدها، خصوصاً أن تدخل قوات الأطلسي أضاف بعداً سياسياً معقداً الى الثورة الليبية حتى رددت بعض الدوائر الثائرة ضد القذافي ونظامه أحاديث متناثرة عن دعمٍ عسكري و «لوجيستي» من جانب إسرائيل لقوات القذافي وإن كانت هذه التسريبات غير مؤكدة. ويتساءل المرء هل تسعد إسرائيل أم تخشى أن يزول نظام القذافي؟ واقع الأمر أنها نقطة غامضة وإن كنت لا أتصور أن تقوم قوات الأطلسي بغاراتها على مواقع القذافي ما لم تكن إسرائيل راضية عن ذلك. سادساً: إن سورية مسألة أخرى فالذين قالوا لا حرب من دون مصر قالوا أيضاً لا سلام من دون سورية، فسورية دولة محورية ذات أهمية خاصة ووزنٍ قومي كبير ودول الجوار الثلاث غير العربية المحيطة بسورية (إيران وتركيا وإسرائيل) ترصد بترقبٍ وحذر ما يجري في تلك الدولة العربية المهمة وتشعر بأن أي تغييرٍ لنظام الحكم في دمشق سيجر المنطقة كلها إلى مشهدٍ سياسي مختلف. ولا شك في أن الصراع العربي - الإسرائيلي سيتأثر بشدة بما يجري على أرض الشام على نحوٍ يختلف عن تأثره بثورات أخرى وربما يزيد اهتمامه بها عن تلك الثورات باستثناء المصرية بمنطق الجوار الجغرافي والأهمية السياسية. سابعاً: إن إسرائيل التي تشعر برغبة كامنة في فتح أبواب التعامل مع دول الثروة النفطية في الخليج يعنيها استقرار تلك المنطقة أكثر من الجمهوريات البعيدة في اليمن أو ليبيا أوتونس. صحيح أنه كان لاسرائيل مكتب تجاري في تونس وعلاقات ديبلوماسية كاملة مع مصر إلا أن «اللعاب العبري» يسيل دائماً تجاه دول الخليج ولكن هذه الدول في معظمها لحسن الحظ تقف حذرة أمام محاولات إسرائيل الخبيثة وأطماعها المكشوفة. * كاتب مصري