تعترض المؤرخين والباحثين في التاريخ مشكلة التقسيمات الزمنية أو ما يُعرف بالتحقيب التاريخي، وقد أثارت هذه المسألة انتباه مجموعة من المفكرين، ناقشوها بعمق؛ منهم المفكر عبدالله العروي في كتابه «مفهوم التاريخ»، ومحمد عابد الجابري في كتابه «تكوين العقل العربي». وتنبع أهمية التحقيب من أنه وسيلة ضرورية لتأطير وتنظيم أحداث الماضي للوقوف على معانيها ومدلولاتها التاريخية الحقيقية، ويُساعد على تقريب التاريخ من أفهام الناس، ويُيسر الأمور على الباحثين والدارسين المتخصصين. تابعت على اليوتيوب تسجيلاً لإحدى جلسات المؤتمر السنوي الثالث للدراسات التاريخية «التأريخ العربي وتاريخ العرب، كيف كتب؟ وكيف يكتب؟ الإجابات الممكنة» الذي نطمه «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» في بيروت، وحملت الجلسة عنوان «كتابة التاريخ العربي مضمونًا وتحقيبًا»، تناول فيها الدكتور أحمد أبو شوك أستاذ التاريخ في قسم العلوم الإنسانية في كلية الآداب والعلوم في جامعة قطر، إشكالية تحقيب التاريخ العربي الإسلامي، فرأى أنه كله تحقيب أيديولوجي، فالطبري قسم التاريخ إلى ما قبل البعثة، وما بعد البعثة، وقسّمت المدرسة الأوروبية التاريخ إلى قديم ووسيط وعصر النهضة، تحت تأثير الأيديولوجيا أيضًا، فجعلوا سقوط الإمبراطورية الرومانية أمام غزوات الجرمان في سنة 476م نهاية التاريخ القديم، ثم فتح السلطان العثماني محمد الثاني للقسطنطينية في عام 1492 بداية عصر النهصة الأوروبية الحديثة والمعاصرة، ولم يتم الاعتراف باصطلاح «التاريخ المعاصر» إلا من زمن قريب، بنشر بندتو كروتشي (1866-1952) كتابه المعنون «فلسفة وشعر وتاريخ» في عام 1952. أما التحقيب الماركسي فقد جعل من تاريخ الإنسانية خمس حقب تاريخية: مشاعية، عبودية، إقطاعية، رأسمالية، إشتراكية، وهو تحقيب قائم على أيديولوجيا اجتماعية اقتصادية. ثم حاول الدكتور إبراهيم القادري بوتشيش أستاذ التاريخ والحضارة في جامعة مولاي إسماعيل في مكناس- المغرب التدليل على أن «الربيع العربي حلقة جديدة في التحقيب التاريخي، الإرهاصات التأسيسية لكتابة تاريخ مدون». بينما كنت أتابع ذلك طرأت لي فكرة لتحقيب التاريخ الإنساني ككل، رأيت أن أشارككم إياها، تنطلق الفكرة التي ستقسّم التاريخ الإنساني في ظل العولمة وما بعد الحداثة، إلى «عصر المخطوط»، ويشمل تاريخ العالم بجزئياته التفصيليلة لكل إقليم حتى قيام الألماني يوهان غوتنبرج (1398-1468) بتطوير قوالب الحروف الطباعية، في سنة 1447، ومن ثم اعتبر مخترع الطباعة الحديثة. وبالتالي يُمكن أن نطلق على العصر التالي «عصر الطباعة»، والذي يشمل التاريخ الإنساني ككل متضمنًا التفاصيل الجزئية لكل إقليم وأمة حتى قيام الفيلسوف الألماني وعالم الطبيعة والرياضيات غوتفريد فيلهيلم لايبنتز (1646-1716) باختراع اللغة العالمية لأجهزة الحواسيب الرقمية، في القرن السابع عشر؛ ليبدأ «العصر الرقمي» أو ما اصطلح أخيراً على تسميته «العصر السيبراني» المعاصر، وأرى أن هذا التقسيم يتجاوز الحدود الجغرافية والأيديولوجية، وكذلك السياسة، لأنه سيربط التاريخ بطفرة معرفية في مجال المعرفة الإنسانية ككل، ذلك أن اختراع الطباعة أحدث طفرة معرفية وجعل الكتاب متاحاً بصورة أكثر عن العصر المخطوط، ثم جاء اختراع الكومبيوتر لينقل العالم إلى طفرة معرفية جديدة، وشكل نقلة نوعية مختلفة جعلت من العالم كله قرية كونية صغيرة. وإذا كان التاريخ في المفهوم العام هو سجل الماضي، ونهر الحياة المتدفق منذ الأزل في موجات متتابعة الواحدة بعد الأخرى، وإذا ما كان المقصود هو تاريخ الوجود البشري في الأرض، فإنني أرى أن هذا التقسيم سيتجاوز أي خلافات بين المؤرخين المعاصرين الشرقيين والغربيين، لأنه سيتجاوز الخلافات السياسية والأيديولوجية، وسيربط التحقيب التاريخي بالطفرة المعرفية الثقافية التي نتجت من اختراع الطباعة ومن ثم الكومبيوتر. ولكن قد يقول قائل إن المشتغلين في كل حقل معرفي كالطب مثلاً سيقولون إنه يمكننا تقسيم التاريخ وفق اكتشافات طبية تركت تأثيرها الأكبر في تاريخ الإنسانية، أو قد يقول العاملون في مجال التكنولوجيا إن هناك اختراعات كالمصباح الكهربائي مثلاً، وأجهزة البث والاستقبال للموجات الصوتية، واختراع الهاتف كلها اختراعات أحدثت طفرة في تاريخ البشرية، وفي تاريخ الكرة الأرضية، إلا أنني أرى أن أعظم اختراعين كان لهما التأثير الكبير في التاريخ هما اختراع الطباعة، ثم اختراع الكومبيوتر، لأنهما اختراعان لهما التأثير المباشر في مصادر المعرفة وهي الكتاب، إذ نقل الاختراع الأول الكتاب من الصورة المخطوطة المحدودة النسخ إلى الصورة المطبوعة المتعددة النسخ، السهلة التداول، وجاء الاختراع الثاني لينقل الكتاب، مصدر المعرفة، إلى صورة جديدة هي الصورة الرقمية التي سهلت على الباحثين والمثقفين حمل آلاف بل ملايين الكتب في حيز مادي محدود للغاية، وسهلت مواقع الإنترنت ومحركات البحث الوصول للمعلومة بسرعة هائلة، فبدلاً من قراءة مخطوط كامل، أو كتاب مطبوع كامل، أصبح بالإمكان بالضغط على زر واحد لمعرفة المعلومة التي أبحث عنها في الكتاب، في دقائق معدودات، مع إمكان مقارنة المعلومة بمصادر أخرى في اللحظة ذاتها. وبالتالي ألا تشاركوني الرأي أن هذين الاختراعين كان لهما التأثير الأكبر في تاريخ البشرية، وأنه يتوجب تحقيب التاريخ الإنساني وفقهما: العصر المخطوط، العصر المطبوع، العصر الرقمي. إنها مجرد صيحة أطلقها لعله يكون لها صداها في المستقبل القريب.