تعرفنا من خلال حلقتين سابقتين طرحناهما عن موضوع التحقيب أو التأريخ الإيبيستمولوجي للأفكار، أن الحضارة الغربية المعاصرة تقسم تاريخها الفكري، وبالتالي الحضاري، إلى ثلاثة عصور:العصر القديم، والعصر الوسيط، والعصر الحديث، وأن كل عصر منها يقطع مع العصر الذي سبقه بالمعنى الإيبيستمولوجي الغربي المعاصر لمصطلح"القطيعة". والسؤال الذي يهمنا طرحه هنا، بعد كل ما تعرفنا عليه سابقا من تحقيب إيبيستمولوجي غربي، هو:هل هناك تحقيب إيبيستمولوجي خاص بالفكر العربي الإسلامي؟ وهل هناك، بالتالي، انطلاقاً من ذلك التحقيب إن كان ثمة وجود له عصر فكري عربي قديم، وعلى إثره عصر وسيط، ثم عصر حديث،كما كان عليه التحقيب الإيبيستمولوجي الغربي؟. تلك أسئلة،في تقديري،مشروعة، وإن لم تكن الإجابة عليها متوفرة وسهلة. هناك بعض المحاولات التي يقوم بها بعض الباحثين العرب لإثبات أن هناك تحقيباً عربياً يختلف زمنياً ومسارياً عن مثيله:التحقيب الغربي. وهي محاولات لا تمثل، في تقديري، أكثر من أنها نتيجة مباشرة لما عبر عنه ابن خلدون في مقدمته ب"ولع المغلوب بالإقتداء بالغالب!".ذلك أن التحقيب الفكري لم يكن من المفكر فيه، عربياً ، قبل أن تشع أنوار الفكر الغربي على العالم، ومن ضمنها ماعرف ب"التحقيب الإيبيستمولوجي" الذي دشن مصطلح"القرون الوسطى"زمنياً وفكريا،والذي لا نزلنا،نحن العرب والمسلمين نستخدمه في تعاطينا السالب مع الأفكار والأقوال والأعمال والأشخاص، اتباعاً مجرداً(لاواعياً) ل"سَنَن" من خطف عقولنا وأبصارنا بحداثته وديمقراطيته وفكره الإنساني ليس إلا!. ثمة تحقيب زمني/فكري للفكر العربي الإسلامي، تبناه المفكر الجزائري الأصل: الدكتور محمد أركون وضَمَّنه بعض نتاجه الفكري. ففي رأيه، وكما جاء في كتابه:( معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية)، أن ثمة تحقيباً للفكر العربي الإسلامي يقسمه إلى فترتين: أولاهما:ما يسميها أركون"فترة فجر الإسلام وضُحاه"،وتمتد من بداية ظهور الإسلام في الربع الأخير من القرن السابع الميلادي، لتنتهي في نهاية القرن السادس الهجري:تاريخ وفاة أبي الوليد ابن رشد،(توفي عام 595 ه 1198 م).ويطلق عليها أركون أيضاً مسمى:"مرحلة الإسلام الكلاسيكي". ثانيتهما:ما يسميها"فترة ظهر الإسلام وعصره"،وتمتد من بداية القرن السابع الهجري وحتى الآن. وهي مرحلة ما يطلق عليها أركون :المرحلة السكولائية،(من :اسكولا:مدرسة باللاتينية)،التكرارية الاجترارية!. بالمقابل، فهناك تحقيب آخر أشار إليه الدكتور:هاشم صالح في كتابه:(مدخل إلى التنوير الأوروبي) يقسم الفكر العربي الإسلامي إيبيستمولوجياً إلى المراحل التالية: مرحلة الإسلام الكلاسيكي. تبدأ من بداية الإسلام وحتى تاريخ انطفاء الفلسفة في المغرب والأندلس ، مع وفاة ابن رشد في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي. مرحلة العصور الوسطى بالمعنى السلبي للمصطلح. وتمتد من بداية القرن الثالث عشر الميلادي،(مع ملاحظة أن ابن خلدون الذي ظهر في القرن الرابع عشر يمثل استثناءً من القاعدة)، وحتى نهاية القرن الثامن عشر. مرحلة عصر النهضة العربية،وتبدأ من بداية القرن التاسع عشر،وحتى منتصف القرن العشرين:تاريخ موت الليبرالية العربية مع قفز الناصرية على العرش السياسي المصري. مرحلة القومية العربية، وتبدأ من العام 1950م وحتى بداية السبعينيات. مرحلة الأصولية الدينية، ابتداءً من عام 1970م، تاريخ إدارة السادات ظهره للقومية العربية والتفاته إلى الأصولية الإسلامية ، وهي فترة لا تزال مستمرة ومتحكمة ببنية العقل الإسلامي إلى اليوم، مع استثناءات هنا وهناك تؤكد الأصل. وقد كان لهذه المرحلة الأثر الكبير، بل والرئيس، في انبعاث الطائفية والإثنية والعنصرية في طول البلاد الإسلامية وعرضها، والتي يقتل المسلم فيها أخاه بسبب من مذهبه الديني بالذات.وما يحدث حالياً في العراق وباكستان وأفغانستان من حروب مذهبية خير شاهد على ذلك.وهذا يعني أن المسار التحقيبي الإسلامي اتخذ مساراً ارتدادياً بالانقلاب على عصر"نهضته!" والرجوع إلى عصر الأصوليات الدينية. ولذلك، يتساءل هاشم صالح:كيف يمكن أن نعود،(والضمير يعود على المسلمين)، إلى عصر الأصوليات الدينية بعد أن مررنا بمرحلة الصعود منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم؟ ثم يجيب:"لعل فشل عصر النهضة العربية وما تلاه يعود إلى أننا لم نستطع أن نصفي حساباتنا التاريخية مع تراثنا كما صفاها الأوروبيون مع تراثهم.أو قل إننا تجرأنا على تصفيتها نصف تصفية أو ربع تصفية فقط. هذا كل ما في الأمر.لا أكثر ولا أقل". لكن هل يُسلَّم لهذين التحقيبين أو أحدهما؟ الواقع أن ثمة نظراً، إن لم يكن اعتراضاً على كلا التحقيبين، لماذا؟ الجواب ربما يتضح إذ نحن استصحبنا المعايير التي (حقًّب) الغرب، بناءً عليها، أزمنته الحضارية. يقوم التحقيب الإيبيستمولوجي الغربي على تحديد خصائص،أو سمات، فكرية تميز كل عصر عن العصر الذي يخلفه.هذه السمات،وإن اختلفت من عصر إلى عصر،إلا أنها تبدأ وتنهي في السؤال عن مدى تحقق كل من:(التعددية)،بكافة أشكالها،على المستوى الاجتماعي، والديمقراطية على المستوى السياسي.فالعصر القديم(الإغريقي) كان عصر تعددية وديمقراطية ومواطنة،(من الطبيعي القول بأنها كانت تعددية وديمقراطية نسبية مشروطة بشروطها الزمنية). فيما كان العصر الوسيط الذي خيم بظلامه على الغرب،على وقع انهيار الإمبراطورية الرومانية،على النقيض من العصر الإغريقي،إذ يخلو،تقريباً،من كل تلك المعايير الإنسانية، ولذلك فقد جاء(=العصر الوسيط) وسطاً بين الجذر(=العصر الإغريقي)،والفرع(=العصر الغربي الحديث) الذي استعاد الأصل الإغريقي خلال نهضته ما بين القرنين السادس عشر وبداية الثامن عشر، ثم تجاوزه بالدخول في عصر الليبرالية الحديثة اعتبارا من القرن الثامن عشر(قرن الأنوار) وحتى الآن. أما على مستوى الفكر الإسلامي، واستصحاباً لمعياري التعددية والديمقراطية اللذين(حقّب) الغرب بناءً عليهما أزمنته الحضارية،فلا يمكن للمرأ أن يغفل عن تلك التعددية التي دشنها عقد الصحيفة،كعقد اجتماعي/سياسي،والذي أبرمه النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة بأن كتب كتاباً"بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة". كما"وادع فيه يهوداً وعاهدهم وأقرهم على دينهم(...)وأموالهم وشرط لهم وشرط عليهم"،وأن"اليهود،(لاحظوا اليهود وليس غيرهم)،أمة مع المؤمنين ،لليهود دينهم وللمسلمين دينهم. وأنهم ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين". ثم يُختم العقد بالتأكيد على أن العلاقات الاجتماعية بين سكان يثرب يجب أن تبنى على البر وحسن المعاملة والحرص على استتباب الأمن(=علاقات مدنية بحتة لا ينظمها أي دين من الأديان المختلفة المتعايشة سلميا). وما يلفت النظر في هذا العقد هو إقراره لتعددية رائعة في كافة تمظهراتها:تعددية قبلية:الأوس والخزرج بالنسبة للعرب،بنو النظير وبنو قينقاع وبنو قريظة بالنسبة لليهود.تعددية دينية:مسلمين ويهود ومنافقين ومشركين. لكن مع احترام وحدة الجماعة المبنية على أساس مدني قوامه المعاملة الحسنة والبر والدفاع المشترك عن المدينة. يقول الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه:( في نقد الحاجة إلى الإصلاح) ما نصه:"واضح أن مضمونها(=الصحيفة) يحتمل أن يوصف بأنه عقد اجتماعي، والقول بالتالي إن الدولة في الإسلام قامت على أساس عقد اجتماعي(=يماثل أو يشبه العقد الاجتماعي الذي أسس دولة المؤسسات والقانون في الغرب المعاصر)". ويستغرب الجابري من أن"جميع الذين تكلموا أو شرَّعوا لمسألة الخلافة أو الإمامة، وبالتالي لمسألة الحكم في الإسلام، قد تجاهلوا هذه الصحيفة التي أسست دولة الرسول صلى الله عليه وسلم تجاهلاً تاما.فذهبوا يبحثون عن مستندات أخرى يبررون بها رأيهم في مسألة الخلافة. ثم يضيف:"وهكذا ذهب بعضهم إلى القول بالنص والوصية(=الشيعة)، بينما استند آخرون إلى إجماع الصحابة على مبايعة أبي بكر(=أهل السنة). والذين من المتكلمين والفقهاء تخصصوا في(الكلام في البيعة) وشروطها وكيفية عقدها وعدد من تنعقد بهم، قد نزلوا بها من الأفق الواسع الذي نصت عليه صحيفة النبي إلى مستوى ضيق محدود فماثلوا بينها وبين عقد البيع وأحكامه الفقهية، وكأن الأمة تبيع حريتها وحقوقها لمن يتولاها بالرضى أو بالقهر. وأكثر من ذلك، نزلوا بعدد من تنعقد به الخلافة والإمامة مِن مَن أمكن حضورهم من أهل الحل والعقد، إلى القول بأنه يكفي فيها خمسة منهم، ونزل بها آخرون إلى أقل من ذلك،حتى قالوا يجوز أن تنعقد الخلافة والإمامة ببيعة رجل واحد،ولكل منهم حجة يستقيها من وقائع الصراع على الخلافة زمن الصحابة".هذا العصر الزاهر انقضى على وقع انقلاب الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض مطبوع بطابع كسروي. وبالتالي، فالسؤال المناسب هنا هو:إذا كان ذلك العصر الزاهر يمثل الجذر بالنسبة للفكر العربي الإسلامي،فهل السيرورة الزمنية/الفكرية التي تلته تسمح بالقول إن هناك عصراً وسيطاً إسلاميا؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في الجزء القادم من هذا المقال.