البحث عن الحقيقة كان هاجس الشاب القادم من قرية صغيرة جنوبالرياض للدراسة بجامعة الإمام في السيرة الروائية التي كتبها محمد العوين بعنوان «تجربة فتى متطرف». هذه السيرة التي لم يهدف كاتبها لتوصيف ملامح الحياة في المجتمع السعودي مطلع السبعينات الميلادية، وانصرف جهده إلى التركيز على ما يجري داخل وعي الشخصية المحورية التي احتلت مكان الراوي، ودخلت في مونولوج طويل لمساءلة الذات ونقد مقولات جماعة الإخوان المسلمين التي انتسب إليها الفتى، لكنه لم يستسلم لأفكارها وأنقذته عاطفته الأدبية من الاستسلام للأيديولوجيا المراوغة، وعدلت مسار حياته محادثة عابرة مع ممرضة عربية اسمها ليلى في مشفى الملك فيصل التخصصي، أثناء زيارته لأخيه المريض، كل ذلك جعله يعيد النظر في موقفه من نتاج الجماعات الإسلامية المؤدلجة. لم يتطرق أحد من الروائيين السعوديين إلى موضوع اختراق الإخوان المسلمين للمجتمع السعودي من قبل، وهذه مهمة صعبة تتطلب بحثاً وتوثيقاً ورجوعاً إلى المصادر ومقابلة من عاصروا تلك الحقبة، لذلك تأخذ هذه السيرة الروائية منزلة الوثيقة الاجتماعية التي حاول مؤلفها كشف طريقة الجماعة في استقطاب الأعضاء الجدد، وعرض برامجها وخطب منظريها، وتوثيق حراك الجماعات الإسلامية عندما التحق بالجامعة منتصف التسعينات الهجرية. كان السكن الجامعي يقع في آخر شارع الوزير، ولأن المسافة بين هذا السكن ومقر جماعة التبليغ في مسجد سكيرينة الطيني قصيرة جداً، سهل له الالتحاق بهم، ثم أرادوا منه بيعة فغادرهم بعد أن أدرك أنه تجاوز سذاجة أطروحاتهم إلى جماعة الإخوان المسلمين التي اطلع على مؤلفاتهم في المرحلة الثانوية، وأعجبه أن لدى الجماعة تصورات سياسية عميقة، وتحلل النصوص وتجعلها مشاريع لعمل تغييري سيقلب المجتمع ويعمل على توجيهه الوجهة الصحيحة. ومع مرور الوقت وجد نفسه أسير أحكامه المحددة، ونظراته القاسية للحياة وما يدور فيها، شعر أنه في سجن نفسي داخلي، لم يفرض عليه ولم يدخل عليه أحد، حينها هرب من حصار فكر الجماعة ومندوبيها، وتعمد الغياب عن لقاءاتهم، وأخذته رغبة الاكتشاف والتجريب وخوض المجهول، وذات ليلة خرج إلى شرفة غرفته المطلة على مقبرة العود وناجى نفسه «يا لهذه المدينة المؤججة بالفناء، والداعية إلى الفناء من خلال فكر الجماعة، والمقبلة على الفناء من خلال ما يعد به المستقبل القريب من طلائع الشباب التي زرعت في أدمغتهم فكرة الصراع بين الحق والباطل». ويسرد المؤلف في فصل المنعطف وقائع رحلة علمية إلى باكستان وشبه القارة الهندية، بعد اختياره ضمن نخبة من الطلبة المميزين، ويسلِّط الضوء على تغلغل عناصر الجماعة المؤثر في الأنشطة الجامعية، ويبوح عن خواطره التي اجتاحته أثناء اللقاء مع أبي الأعلى المودودي في مدينة لاهور، وعلى رغم الفتى طلق الجماعة وعاهد ليلى على المضي قدماً في البحث عن آفاق جديدة، إلا أنه تفهم كفاح الشيخ وجهاده العلمي، بخاصة أن المجتمع الإسلامي المنشود الذي ينظر له في شبه القارة الهندية، لا بد له من تحديد مفهوم شرعي للمجتمع الإسلامي من أجل أن تتحدد ملامحه وتتبين شخصيته عن سواه من المجتمعات الأخرى كالبوذية والهندوسية، ولكن الأمر يختلف عن المجتمعات العربية والإسلامية التي لا تعرف هذا الحصار والتناحر الديني. وتذكر الشاب كتب المودودي التي سوقها وساعد على انتشارها في قريته عن طريق مكتبة الثقافة التي أنشأها مع الجماعة، حين كان في أشد مراحل حماسته لهذا الفكر، واتضح له مدى إلهام هذا المفكر لكثيرين من منظري جماعة الإخوان بدءاً بسيد قطب وأخيه محمد في مفهومي الجاهلية والحاكمية، وليس انتهاء بعماد الدين خليل في كتابه ملامح الانقلاب الإسلامي في حياة عمر بن عبدالعزيز، أو فتحي يكن في كل كتبه. وقابل الفتى في رحلته أبا الحسن الندوي في مدينة لكنو الهندية، فرآه يقترب من السبعين، وتتقد عيناه خلف نظارة بيضاء، وكأن بهما شيئاً من حول أو عدم انتظام، بصغر واضح في حدقتيهما، وبدت مظاهر الغنى على منزل الشيخ، ولمس من خلال حديثه نزعته الأدبية الطاغية التي هدته لاستيعاب أكثر شمولاً لمعاني التواصل الإنساني، إلا أنه لحظ منه مبالغة في تحديد أطر إسلامية الأدب، والتقنين للنص لكي يكون مقبولاً وفق الشرط الإسلامي، كما أنه كان يكثر من الاستشهاد بشعر محمد إقبال، وكأنه النموذج الوحيد الذي لم تنجب أمة العرب مثله، ضايقته هذه النظرة التي رأى فيها بعض الاستعلاء، وشيئاً من تجاهل تراث العرب الشعري. الشاب تغيَّر قبل الرحلة وازداد يقيناً بعد هذه اللقاءات بصواب ما انتهى إليه، حتى الشيخ حامد خطيب جامع الجوهرة المشرف على الرحلة لاحظ انقلاباً يتشكل في عيني أنشط مريديه وأتباعه، ساءل الشاب نفسه: لم تعتقل ذاتك داخل سجن الجماعة؟ وهل صدر ضدك حكم بالسجن المؤبد لتقضي عمرك داخلها تتلقى الأوامر والتوجيهات؟ إلى متى تعيش تحت الوصاية الفكرية لهذه الجماعات؟ ضاق بهذه الهواجس، ومع ذلك التزم بما وعد به ليلى للخروج من دائرة هذا الحصار الفكري، ولكن أكثر ما أزعجه وتألم منه تلك التقارير السرية التي كتبت عنه بعد عودته من الرحلة وتقديمه لمحاكمة سريعة ووضعه بين خيارين، إما السير في ركب الجماعة والحصول على وظيفة، أو الطرد ويصبح منتكساً ويتم تحذير الشباب منه والابتعاد عنه. وكانت هذه بداية انعتاق الذات من هيمنة الأيديولوجيا الإخوانية وسطوتها القاسية، ثم يتفاجأ الجميع تلك الأيام بما زلزل القلوب المؤمنة، وكشف ما كانت تخفيه هذه الجماعات على شر مستطير للمجتمع. وتنتهي الرواية بالتحاق الشاب بالعمل في الصحافة الثقافية، وسفره للقاهرة للقاء بعض الأدباء والمثقفين، واقتناء الجديد من الكتب، في الصفحات الأخيرة نطالع ما سطره عن لقاء أخير مع ليلى التي ساعدته على رؤية العالم بعيون حرة لاختيار ما يحفزه على النهوض لا القعود، والبناء لا الهدم، والوعود الجميلة، لا الغياب في أحلام اليقظة، ودعَّها وفي صدره كلمات امتنان مع نظرة تأملية على كل ممر سلكه، وكل دقيقة حاضرة فتحت له النور إلى المستقبل.