في عام 2006 كتبت مقالاً عن الحرب الحزب اللاهية - الإسرائيلية، وذكرت أن حسن نصرالله أطلق شرارة هذه الحرب من أجل ترميم مواقف داخلية تخصه شخصياً وتخص حزبه، ولا بأس من امتداد بركات هذا الترميم لتشمل النظام الحاكم في سورية والنظام الحاكم في إيران. وأشرت إلى أنه لم يكن في أجندة حسن نصرالله آنذاك الانتصار في حرب خارجية، بل كان يعمل على تغطية بعض الوقائع السوداء الداخلية وهزيمة أعدائه المحليين وإجبارهم على الاصطفاف بجانبه في شكل مذل من خلال استخدامه للجسر الإسرائيلي الذي ظل التنفع منه حكراً على سماحة السيد منذ ثمانينات القرن الماضي. مات آلاف اللبنانين في الحرب ولم يمت من الإسرائليين سوى نفر قليل، وتأثرت البنية التحتية في جميع عموم لبنان، وخرجت إسرائيل من الحرب أقوى وأشد عوداً، إذ تهيأت لها فرصة التجربة العسكرية الحية التي تستطيع من خلالها اختبار قوتها، وهي التي أمضت السنوات الأخيرة قبل 2006 في مناورات بلاستيكية معلبة لا تعطي مؤشرات تفوق إقليمية حقيقية! «خربت» لبنان ونفضت إسرائيل الغبار عن أجهزتها العسكرية والديبلوماسية، ومع ذلك صدّر لنا الإعلام العربي أن الحزب المقاوم هو الذي انتصر في الحرب وأن إسرائيل مُنيت بهزيمة مُذلة ستُخلف آثاراً مدمرة عليها في المديين القصير والمتوسط. بعد نشر المقال، اتصل بي صديق سوري من مدينة درعا وأبدى انزعاجه مما كتبت، وذكرني بالطبيعة المقاومة للحزب، واستغرب أن أكتب مثل هذا الكلام وفي هذا الوقت تحديداً والأمة العربية من خليجها إلى محيطها تقف صفاً واحداً مع سماحة السيد وحزبه المسلح، وذكّرني بانتصارات الحزب على إسرائيل في العام 2000، وأشار إلى ما أن ما اعتبرته انتصاراً استراتيجياً وعسكرياً وسياسياً لإسرائيل في مقالي، إنما هو في الحقيقة أضغاث أحلام أعيشها ويعيش في ليلها قلمي، وهددني أنه سيقاطعني ويسحق صداقتنا تحت قدميه فيما لو سدرت أكثر في غيي، وذهبت بعيداً خلف هذه الفكرة. لم أستطع آنذاك الوقوف صامداً أمام قذائف كلمات صديقي، إذ أن الجو العربي العام كله كان مشحوناً، وكان يقف مع المظلوم ضد الظالم، مع الحقوق السليبة ضد الاحتلال، مع الضعف ضد القوة، مع حزب الله ضد إسرائيل. كان صديقي يتساءل: كيف لي أن أكون ضد نصرالله وضد أولمرت في الوقت نفسه؟! هذا نفاق لا شفاء منه. هكذا قال صديقي، وهكذا أنهى الحديث. أكملت الكتابة في السنوات اللاحقة عن أهمية وجود نصرالله وحزبه بالنسبة للإسرائليين، لكني حاولت في كل مرة أنشر فيها مقالاً عن حزب الله أن أتجاهل اتصالات صديقي السوري كي لا يعلن عبر الأثير تخليه عن صداقتنا. كنت فقط أؤجل القطيعة بيننا لعل الله يكتب لنا فرجاً من عنده. كنت أقول لنفسي لن يستطيع نصرالله إنهاء علاقتي بصديقي، لكني سأظل في الوقت نفسه مخلصاً لوجهة نظري حيال الحزب وقائده. مرت السنوات وأنا أفتقد صوت صديقي، إلى أن ظهر علينا سماحة السيد حسن نصرالله قبل أسابيع، وعبر شاشة ضخمة تنقل صورته «التلفزيونية» لمحبيه ومريديه وأعضاء حزبه في إحدى ساحات بلدة النبي شيت بالبقاع فيما هو يخطب من مكان (ما) في الضاحية الجنوبية. ظهر الزعيم ذو النصر الإلهي مطالباً الشعب السوري بالصبر على نظام بشار لأنه جادّ في الإصلاحات، معتبراً أن «إسقاط النظام في سورية هو لمصلحة أميركا وإسرائيل بهدف استبداله بنظام معتدل لتوقيع سلام مع إسرائيل»! وداعياً «السوريين (ومنهم صديقي) إلى الحفاظ على بلدهم ونظامهم المقاوم والممانع وإعطاء المجال للقيادة السورية بالتعاون مع فئات شعبها لتنفيذ الاصلاحات المطلوبة». بعد أيام من كلمة نصرالله اتصل بي صديقي وجاوبته في الحال وقال لي: «كم كنت محقاً بخصوص رأيك في حزب الله وقائده. الرجل الذي دعم الثورات العربية جميعها يقف الآن ضد ثورة الشعب السوري بحجة مقاومة النظام الذي لم يطلق على إسرائيل رصاصة واحدة منذ ما يزيد على 40 عاماً» وأضاف صاحبي أن نصرالله قال إن الأنظمة العربية غير جادة في الإصلاحات، لذا وقف ضدها في جانب شعوبها، بينما نظام بشار جاد في الإصلاحات وبالتالي فهو معه ضد شعبه! صديقي الذي جدد علاقته معي، قطع علاقته نهائياً بحسن نصرالله وصار يقرأ عليّ عدداً من التقارير التي نَشرت مؤخراً والتي تتحدث عن العلاقات الإيرنية - الإسرائلية والعلاقات الإيرانية - الأميركية، خالصاً إلى نتيجة مفادها أن حزب الله يعمل لصالح إسرائيل وأنه حليف سري لها وإن ظهر بمظهر العدو! حذرت صديقي من الذهاب خلف هذه الفكرة، وهددته بسحق علاقتنا إن تمادى في تبينها، لا لإيماني بنزاهة الحزب، ولكن لأني ضد نظرية المؤامرة التي أضعفتنا ردحاً طويلاً من الزمن وأبقتنا في الصفوف الخلفية في عربة تقدم الأمم. وضد كذلك «الحدّية» التي تقتضي الاستقطاب في حدين لا ثالث لهما! كون حسن نصرالله ضد الشعب السوري، لا يعني أنه مع إسرائيل، بل يعني أنه ضد الشعب السوري وضد إسرائيل في الوقت نفسه، لكن وجود حزبه على الساحة مفيد لإسرائيل، مثلما وجود إسرائيل مفيد لحزب الله كما رأينا في 2006 وكما سنرى في كل مرة يميل فيها الميزان اللبناني مع نزع سلاح الدولة الصغيرة «حزب الله» وإدماجها في الدولة الكبيرة «لبنان» وبمناسبة الحديث عن الدولة الصغيرة، قلت لصديقي إن نصر الله الذي يدعم الإصلاحات العربية ويميل مع الشعوب ضد حكوماتها، ليس في منأى عن موجة الربيع العربي، ولا عاصم له من انتقال عدوى الحرية إلى عاصمة ملكه «الضاحية الجنوبية» إلا العمل الجدّي على تفعيل إصلاحات جذرية وعميقة تنتقل بموجبها مؤسسات وأسلحة وكيانات الحزب إلى حضن الدولة الأم «لبنان»، وإلا فليستبق المد التصحيحي العربي - في حال إصراره على شرعية وجود حزبه المسلح - ويدشن نظاماً داخلياً يسمح بتداول السلطة داخل الحزب، إذ ليس من المعقول أن يبقى هو القائد الزعيم الملهم كل هذه السنوات، فيما العالم، كل العالم، يعمل على التخلص من قيادة الرموز ويستبدلها بالإدارات! قلت صديقي، ربما يأتي قريباً اليوم الذي تقف فيه مع شعب حزب الله ضد قائده الذي سيطلب حينذاك المزيد من الوقت - بحجة المقاومة - لإجراء إصلاحات قد تطاله هو شخصياً! كاتب وصحافي سعودي. [email protected]