قبل فترة، فجّرت الروائية الروسية لودميلا أوليتسكايا جدلاً لم يهدأ، إذ أظهرت الوجه الآخر للمشهد الثقافي في روسيا الآن. وجه لم يغب تماماً خلال الفترة الماضية، لكن صوته خفت حتى كاد ألاّ يكون مسموعاً، أمام السيل الجارف من النشاطات والفاعليات الثقافية والأسماء الكبيرة اللامعة في عالم الأدب والسينما والمسرح التي أعلنت تأييداً حازماً لسياسات الرئيس فلاديمير بوتين في أوكرانيا، وفي مواجهة «الحملة الغربية الشرسة الهادفة إلى إضعاف روسيا». وأطلقت تلك النشاطات سهام «التخوين» و»العمالة» على مخالفي هذا الرأي. السيدة التي نالت أخيراً في النمسا جائزة الأدب الأوروبي، دقت ناقوس الخطر معلنة أن بلادها تخوض «عملية انتحارية» ستكون تداعياتها خطرة، ليس على روسيا وحدها بل على العالم. كتب كثيرون قبلها عن مخاوف من انزلاق المواجهة الحالية مع الغرب الى حرب عالمية، واعتبر آخرون هذا الكلام تهويلاً، لكن اصحاب هذه الرؤية أو «المتشائمين» كما يُطلق عليهم، يزدادون عدداً وتنوعاً مع انضمام طائفة من المثقفين إليهم. وذهب بعضهم في روسيا الى «التبشير» بأن حرباً عالمية «بدأت بالفعل»، وإن كانت لا تزال مقتصرة على بُعدين أحدهما اقتصادي والثاني إعلامي. على هذه الخلفية، جاء تحرك عشرات من المثقفين الروس لإعلان موقف إزاء التطورات، عبر توجيه رسائل مفتوحة الى بوتين، وإشارات من نوع آخر، مثل رفض عدد من الفنانين والموسيقيين والأدباء المشاركة في فاعليات ثقافية أُقيمت في القرم. وووجِهَ هؤلاء بحملة شرسة في الإعلام اتهمتهم بأنهم «جبناء»، وبدلاً من إعلاء صوت بلادهم فضلوا أن تبقى الدروب الى أوروبا مفتوحة أمامهم، وألاّ تشملهم العقوبات الغربية ضد الشخصيات البارزة التي أعلنت تأييدها ضم موسكو القرم. لكن نشاط المثقفين المعارضين آخذ في الاتساع، على رغم حملات التشكيك، وإن ظل صوتهم محاصراً، يعلوه صوت القطاع الأوسع من النخب الثقافية التي أعلنت موقفاً صريحاً إلى جانب الكرملين. بعبارة أخرى، يتجه المشهد كما يقول السياسي بوريس نيمتسوف إلى إعادة تكريس مبدأ «الانشقاق»، وتفضيل «الأقلية المعارضة» الهجرة الموقتة، على الملاحقات والرضوخ للقيود في الداخل، وهو الأمر الذي مارسه كثيرون من معارضي الدولة السوفياتية، من الكتّاب والسينمائيين وغيرهم من المبدعين. وعلى رغم أن الإشارات التي يطلقها «المنشقون» أو «الطابور الخامس» كما تسميهم الصحافة الروسية، مليئة بالتحذيرات من عواقب المواجهة السياسية، فإن الشق الثقافي حاضر فيها بقوة، وهو ما برز من خلال عقد مقارنات بين «روسيا التي أرادها الأمبراطور بطرس الأكبر منفتحة على أوروبا، مندمجة في حضارتها، وروسيا الجديدة التي تغلق أبواب القارة أمامها تدريجاً، وتختار الانكفاء تحت شعارات قومية». هذه العبارات التي حملت عنواناً مثيراً هو «وداعاً أوروبا»، عكست مخاوف بعض المثقفين من أن تكون بلادهم مقبلة على مرحلة جديدة في إدارتها علاقاتها مع الفضاء الأوروبي، بكل ما تشمله الكلمات من أبعاد إنسانية وحضارية. وهذا ما مثّلته كلمات الكاتبة الروسية في مجلة «در شبيغل» الألمانية الأخيرة، عندما كتبت: «روسيا مريضة بداء الشعور بعداء الآخرين، ومصابة بالتشدّد القومي وأوهام الأمبراطورية، وتخوض حربها مع الثقافة والمبادئ الإنسانية والحرية الشخصية وحقوق الإنسان». وينتقد المعارضون بقسوة مبدأ «الديموقراطية السيادية» الذي وضعه بوتين، ويعتبرونه سبباً في انحراف البلاد عن الاندماج مع أوروبا، على رغم أن كثيرين من أنصاره في الداخل يعتبرون هذا المبدأ «نهجاً خاصاً بروسيا» كفيلاً بتجنيبها الوقوع في أخطاء الغرب. لودميلا اوليتسكايا قالت، بعدما تسبب «عطل فني مفاجئ في أجهزة الصوت» في إلغاء مؤتمر صحافي نُظِّم أخيراً لمناسبة حصولها على الجائزة الأوروبية المرموقة، إنها تتعرض مع زملاء يشاطرونها أفكارها الى قيود ومحاولات لتكميم الأفواه. ورأت ان «الحضارة وصلت الى مأزق خطر».