يتناول حلمي النمنم في كتابه «الأزهر الشيخ والمشيخة» شيخ الأزهر من حيث الموقع والدور سواء الدور العلمي أو الفقهي أو الاجتماعي وأخيراً السياسي. ويقدم رؤية جديدة تختلف عن الدراسات التي عنيت بالجانب التاريخي لهذه المؤسسة الدينية العريقة في محاولة لفهم الوقائع التي دوّنها المؤرخون والدارسون. ويستعرض الكتاب صفحات عريضة من تاريخ الأزهر الشريف وتحوله إلى ساحة علمية جعلته قبلة العلماء المسلمين من الشرق والغرب ليغدو أهم جامع وجامعة إسلامية، وهو هنا يجمع بين طياته كماً كبيراً من المعلومات التاريخية والخاصة عن المشيخة أو من تولوها ودورهم البارز في الحياة السياسية. أحيط منصب شيخ الأزهر في الوعي العام بالكثير من الأساطير وليس فقط طريقة توليه موقعه وتركه هذا الموقع بل علاقته أيضاً برجال السلطة. وما زال بيننا إلى يومنا هذا من يردد أن بعض شيوخ الأزهر في زمن فات كانت لديهم القدرة على نهر السلطان وتوبيخه إذا حاد عن العدل وارتكب المظالم. والحقيقة أن الولاة والسلاطين نادراً ما التزموا العدل وبعض الولاة كان ناموسهم الظلم ودأبهم من البداية إلى النهاية، وغاية ما فعله بعض علماء الأزهر أنهم في العهد العثماني كانوا أحياناً يتوسطون بين الوالي والرعية «الأهالي» وقد يستجيب الوالي وقد لا يستجيب. الحديث عن وصول شيخ الأزهر إلى موقعه بالانتخاب يأتي في إطار تصور عام عن استقلال الأزهر، والمعنى أن استقلال الأزهر يبدأ باستقلال شيخه. لذا، يمكن أن نفهم المقصود بانتخاب الأزهر هو أن لا يأتي بالتعيين من قبل رئيس الجمهورية. والاستقلال نسبي وليس مطلقاً خصوصاً في حالة الأزهر الذي تأسس إبان نشأة الدولة الفاطمية كمؤسسة رئيسة من مؤسسات الدولة الجديدة وكان الهدف من إنشائه نشر الدعوة الشيعية وتحديداً مذهب الشيعة الإسماعيلية بين المصريين، وبعد سقوط الدولة بحث صلاح الدين الأيوبي عن فتوى تجيز منع إقامة صلاة الجماعة فيه ومن ثم توقفت الصلاة وأغلق تماماً ونهائياً قرابة مئة عام، ثم أعيد إنشاء الجامع وفتح للصلاة في العصر المملوكي بعد سقوط الدولة الأيوبية بفترة وتألق هذا الجامع في العصر العثماني. ويظهر منصب شيخ الأزهر في مطلع القرن السابع عشر على الأغلب ويستمر حتى اليوم. ولأن الأزهر مؤسسة من مؤسسات الدولة فقد تطور وضعه مع تطور مؤسساتها في العصر الحديث. والواقع أن حديث الاستقلال كان يثور بسبب بعض مواقف شيوخ الأزهر التي تقترب كثيراً جداً من السلطة السياسية وتسير في ركابها بلا مبرر ولا بد من القول إن غباء السلطة كان واضحاً في إصرارها على أن تجعل الأزهر مؤسسة حكومية بحتة خاصة في مواقف شيوخه ومساندتهم لسياساتها. الأزهر هو أول مسجد جامع بني في القاهرة أسسه جوهر الصقلي حين شرع في تأسيس العاصمة الجديدة - أي القاهرة - وكان بناء مسجد جامع في العاصمة قيد الإنشاء وهو سلوك متبع في الدولة الإسلامية أياً كان اسمها ويعود هذا السلوك أو التقليد إلى سنّة استنها الحكام والولاة عن رسول الله حين هاجر إلى يثرب إذ شرع في بناء مسجده بها وكان المسجد مقراً للصلاة وبمعنى ما لإدارة شؤون المدينة (الدولة). بدأ العمل في الأزهر بموقعه الحالي في شهر جمادى الأولى 359 هجرية (أيار/ مايو 970 م) واستغرق العمل فيه أكثر من عامين حيث تم افتتاحه بإقامة صلاة الجمعة أول مرة في 7 من رمضان سنة 361 هجرية وقد وضح الطابع المذهبي بالأزهر من اللحظة الأولى فقد كان الأذان به مختلفاً عما اعتاده المصريون من قبل. فبدلاً من (حي علي الصلاة... حي علي الفلاح) بدأ المؤذن يقول (حي على خير العمل) واصطبغ الأذان بالطابع الشيعي الصرف فقد وردت فيه عبارة (محمد وعلي خير البشر) ثم أمر الخليفة الفاطمي بتعميم الأذان فانتقل منه إلى جامع أحمد بن طولون ثم جامع عمرو بن العاص وهكذا. لم يقف التعديل على نص الأذان ولكنه امتد إلى الدعاء الذي أدخل على خطب الجمعة والعيدين وكان الدعاء شيعياً أيضاً. ظل الأزهر أو جامع القاهرة كما كان يسمى عند إنشائه هو الجامع الرسمي للدولة وكان الخليفة الفاطمي يصلي الجمعة الأولى من رمضان في القصر ثم يصلي بقية الجمع طوال الشهر في الأزهر، وكذلك العيدين، وبقي الأزهر على هذه الحال حتى أقيم جامع الحاكم بأمر الله والذي يقع حالياً في أول شارع المعز لدين الله من جهة باب الفتوح، فقد استأثر الجامع الجديد باهتمام الخليفة وصار الجامع الرسمي، ولكن، هذا لا يعني تراجع الاهتمام بالأزهر. لم يكن الأزهر مسجداً جامعاً فقط لكنه كان ساحة علمية، فقد كان الفقهاء يتدارسون فيه الفقه الشيعي، بهدف نشر التشيع بين المصريين، لكن مكانة الدرس به وأهميته تراجعا كذلك في عصر الحاكم بأمر الله، فكما أنشأ الحاكم جامعه في شارع المعز أسس كذلك «دار الحكمة» وكانت أشبه بمكتبة أو أكاديمية تضم مختلف الكتب والدراسات حول المذهب والفقه الشيعيين. بقي الأزهر على هذا النحو حتى سقطت الدولة الفاطمية على يد صلاح الدين الأيوبي الذي أسس الدولة الأيوبية وهي دولة سنّية المذهب. ويذكر المؤرخون أن الشعب المصري لم يكن تشيع في عهد الدولة الفاطمية، والمعنى أنه لم تكن هناك مشكلة مذهبية في مصر لكن صلاح الدين أراد أن يحد من الثقافة الشيعية في مصر. لا نعرف على وجه التحديد متى ظهر منصب شيخ الأزهر وموقعه، ولا معايير اختياره ومن يقوم به، ولا نعرف كذلك ما هي حدود ذلك المنصب واختصاصات من يشغله ومسؤولياته وقد استقر لدى عدد من الباحثين أن الشيخ محمد بن عبدالله الخرشي هو أول شيخ للأزهر. ويبدو أن المنصب لم يكن مهماً وقتها. لذلك، لم يعطه ألجبرتي أهمية، فقد قدم الخرشي باعتباره «شيخ الإسلام والمسلمين ووارث علوم سيد المرسلين»، وإلى الآن فإن كل الكتب التي يصدرها تتحدث عن الشيخ الخرشي المتوفى سنة 1101 هجرية -1690 م – باعتباره أول شيخ للأزهر ولكن، لا يذكر لنا أحد متى تولى ذلك الموقع ولا من ولاه ولا كيف تولاه، فضلاً عن مؤهلاته وحيثياته لارتقاء المشيخة. والوقائع تثبت أن العصر العثماني هو عصر ازدهار وتألق الأزهر وعلو شأنه بين بقية جوامع مصر. ولم يتحقق ذلك للأزهر بين يوم وليلة ولا عبر عقود بل استغرق حوالى قرن ونصف القرن من الزمان. والواضح أن علماء الأزهر كانوا منخرطين في صراعات الحياة بكل ما تحمله من عناصر الضعف والمكايدة حيناً والتآمر حيناً آخر. وحتى الآن لا نجد حديثاً واضحاً عن مشيخة الأزهر ولا كيف يختار الشيخ ولا من يختاره ويبدو أن الأمر كان يتم في شكل من التراضي ولم يكن هناك خلاف على الشيخ، لكن الأمور لن تستمر هكذا، بل سيحدث انفجار كبير داخل الأزهر وحول شيخ الأزهر: من يكون وكيف؟ حين ظهر منصب شيخ الأزهر كان يتولاه في البداية شيوخ المالكية ولا نعرف السبب المباشر لذلك ربما كان هؤلاء الشيوخ الأكثر علماً وفقهاً، وربما كانوا الأكثر تأثيراً في المجاورين، وربما مال إليهم حكام مصر لكن، أيضاً لم يكن هناك تنافس أو صراع بين المذاهب. لذا، لم يجد العلماء أي غضاضة في أن يكون شيخ الأزهر مالكياً. وفي سنة 1137 هجرية - 1725 م - توفي شيخ الأزهر الشيخ إبراهيم بن موسى الفيومي المالكي، وكان آخر سلسلة متواصلة من شيوخ المالكية في موقع شيخ الأزهر وبعده انتقلت المشيخة إلى الشافعية حيث تولى الشيخ عبدالله الشبراوي الموقع. ولم يتوقف التنافس بين كبار العلماء على المنصب الرفيع فقد كان الفوز بالمنصب يعني الكثير لصاحبه سواء على المستوى العلمي أو الفقهي أو الوضع الاجتماعي وتحول الصراع في بعض الأحيان إلى ما يشبه الحرب الأهلية داخل الأزهر، وأدى أحياناً إلى سقوط قتلى وجرحى، وبعض المراجع التي تتحدث عن مشيخة الأزهر لا تعترف بفترة وجود شيخين للجامع الأزهر بل وتهب إلى اعتبار أن المشيخة كانت معطلة في تلك الفترة. والواقع أنها لم تكن معطلة بل كانت ضعيفة بسبب الصراعات بين العريشي والعروسي. لكنْ، كلّ منهما كان شيخاً للأزهر في الوقت نفسه. ليس هناك قاعدة صارمة للعلاقة بين العلماء والأمراء أو مشايخ الأزهر وأمراء المماليك لكن هناك ملامح لتلك العلاقة فقد كان كل منهما مضطراً للتعامل مع الآخر، فوجدنا أمراء يحبون العلماء ويوقرونهم وآخرون لا يحبونهم ويتحاملون عليهم وفي المقابل نجد من العلماء من يتودد إلى الأمراء وآخرين حاولوا أن يتواءموا ويتوازنوا في التعامل معهم، وفريقاً ثالثاً من العلماء كانوا يتعاملون معهم اضطراراً. طوال العصر العثماني كان نمط العلاقة واضحاً بين كبار المشايخ وصغارهم أو الأساتذة الكبار وتلاميذهم من المجاورين، فقد كان لشيخ الأزهر الكثير من المريدين وكذلك الأمر بالنسبة إلى من هم في وزنه العلمي والفقهي، وعادة كان هؤلاء المجاورون هم الذي يشعلون التنافس وربما الصراع بين الكبار. وكان المجاورون عادة يتعصبون لشيخهم ويهبون للصراع من أجله إذا ما وجدوا أن فرصته في المشيخة مهددة أو ستضيع. وفي أكثر من مرة حاول بعضهم أن يفرضوا شيخهم ليصبح شيخاً للأزهر. ولا يمكن أي مصري يتوقف عند ثورة 1919 من دون أن يتذكر دور الأزهر في هذه الثورة العارمة، وتبقى أحداث ثورة 1919 لحظة مبهرة في تاريخ الأزهر، بخاصة في ما يتعلق بالوحدة الوطنية التامة بين المصريين، مسلمين وأقباطاً، أفندية ومتعممين، فقد خطب في الأزهر القس سرجيوس والقس غبريال وانتقلت هذه الروح إلى الكثير من المساجد والكنائس، ليس في القاهرة وحدها بل في كثير من المدن المصرية. ومع مشاهد الاحتدام الطائفي في مصر والتي تزايدت في العقدين الأخيرين كثر الرجوع إلى لحظة ثورة 1919 والاستشهاد بها على ما كنا، كما أثيرت أيضاً مسألة تتناول إمكانية التحاق الطلاب الأقباط بجامعة الأزهر، خصوصاً في الكليات العملية (الطب، الهندسة، الصيدلة) استناداً إلى مبدأ المواطنة وأن جامعة الأزهر هي جامعة مصرية وموازنتها ضمن موازنة الدولة المصرية. وحين قامت ثورة 1919 كان تعيين شيخ الأزهر حقاً من حقوق السلطان أو الخديوي. صحيح أن هذا الحق كان موجوداً دائماً، لكن هذه المرة كان حقاً قانونياً، أي حق للسلطان طبقاً لقانون تنظيم الأزهر الصادر في 1910م والذي منح الخديوي حق تعيين شيخ الأزهر وشيوخ المعاهد الدينية مثل الجامع الأحمدي في طنطا ومنح القانون للخديوي كذلك حق تعيين، بطريرك الأقباط وحاخام اليهود الأكبر. ويخطئ من يتصور أن ثورة 23 تموز (يوليو) 1952م ألغت كل ما قبلها أو أنها جاءت بنقيض ما سبقها. لقد احتفظت مصر الجمهورية بالكثير من أساليب طرق مصر الملكية مع بعض المؤسسات والهيئات وعلى رأسها الأزهر الشريف خصوصاً اختيار شيخ الأزهر والدور المطلوب منه تجاه الحاكم. صحيح أن مصر الجمهورية تدخلت في بنية المؤسسة الدينية الرسمية بإلغاء بعض جوانبها واستحداث البعض الآخر ومحاولة تطوير بعضها، لكنها في ما يخص شيخ الأزهر احتفظت له بما كان سائداً من قبل وربما عظمت من دوره ووسعت من اختصاصاته وحتى في عصر السادات وعصر مبارك أدخلت بعض التعديلات البروتوكولية في وضع شيخ الأزهر كأن يتقدم الوزراء في المقابلات واللقاءات الرسمية. لكن طريقة اختياره ودوره ظلا كما هما إلى يومنا هذا. وعندما صدر القرار 103 لعام 1961 جعل من شيخ الأزهر «إمبراطوراً» بمعنى الكلمة وجعل كل شيء في الأزهر بيده بدءاً من رسم السياسات ووضعها واختيار القيادات في الأزهر وحتى الجوانب التي لا يرأسها داخل المؤسسة مثل الجامعة، فإن له فيها التوجيه أيضاً. وعلى رغم التباين في سياسات عبدالناصر والسادات، ثم مبارك بعدهما والذي وصل حد التناقض، فإن سياستهم العامة جميعاً لم تتغير تجاه الأزهر وشيخه. كل منهم استفاد من الأزهر واستغل شيخه في معاركه وقضاياه السياسية داخلياً وخارجياً. والحقيقة أن الالتصاق بين شيخ الأزهر وسياسة الدولة أساء إلى الأزهر وأضعف صورته وموقفه أمام الجماهير داخل مصر وخارجها. ونظراً إلى أن سياسة الدول في منطقتنا باتت ترتبط بشخصية الرئيس فكان التباين الحاد في المواقف كاشفاً ارتباط الأزهر بالرؤساء. وقد يتصور البعض - يقول المؤلف - أننا نريد للأزهر وشيوخه أن يعارضوا أو أن يصارعوا الدولة وسياستها وهذا ليس مطلوباً لأن الأزهر مؤسسة من مؤسسات الدولة. ويضيف النمنم: «يجب أن يدرك القائمون على الأزهر أنه مؤسسة يتجاوز دورها وتأثيرها حدود الوطن وهو مؤسسة على أرض مصر وينبع من الدولة المصرية لكنه مؤسسة أممية في تأثيرها ودورها ومن واجب الأزهر أن يتفاعل مع الأحداث والقضايا الوطنية العامة والمؤثرة». ولو تأملنا مسيرة اثنين من شيوخ الأزهر لأمكننا أن نتبين الأمر بصورة أوضح، وهما محمد مصطفى المراغي في مشيخته الثانية في عهد الملك فاروق، ومحمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر في عهد الرئيس حسني مبارك، وكل منهما فهم أن المشيخة لها دور سياسي إلى جوار الدور العلمي والفقهي. الشيخ المراغي ساند السياسات العليا للملك فاروق ودافع عنه وقدم له خدمات جليلة وكذلك فعل الشيخ طنطاوي، لكن الفارق كبير بين الشيخين. لقد أدت أحداث ما بعد سقوط مبارك بعد ثورة 2011 إلى انتعاش تيارات الإسلام السياسي متمثلاً في جماعة «الإخوان المسلمين» والسلفيين، فضلاً عن «الجماعة الإسلامية» وجماعة «الجهاد». وفي المقابل كانت بعض التيارات المدنية والعلمانية في المجتمع ترجو أن يتدخل الأزهر في هذا الجدل ليوقف جموح السلفيين وقد بادر فضيلة الإمام الأكبر بدعوة عدد من المثقفين من مختلف التيارات الفكرية وانتهت إلى إصدار وثيقة الأزهر في حزيران (يونيو) 2011 التي تضم 11 بنداً، ومن أهم ما جاء فيها أنها طالبت بأن تقوم الدولة على قاعدة تداول السلطة وأن تكون دولة وطنية تقوم على التعددية. ركزت تلك الوثيقة على عدم التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو اللون أو الجنس كما اعتبرت المواطنة قاعدة التعامل بين الدولة والأفراد. والتحدي الحقيقي الذي يواجه الأزهر هو مع وضع الدستور الجديد والجمهورية الجديدة. أين موقع الأزهر وتحديداً مشيخة الأزهر ومن يعين شيخ الأزهر وهل سيعين أم سينتخب؟ قبل العصر الحديث كان فقهاء المذاهب الأربعة وقاضي القضاة ونقيب الأشراف يتفقون في ما بينهم على من يكون شيخ الأزهر، ثم يصعدون إلى القلعة لينالوا موافقة الوالي أو حاكم مصر، أما في العصر الحديث ومنذ عهد محمد علي، فكان اختيار شيخ الأزهر متروكاً للوالي، ومن بعده الخديوي، ثم الملك. والأمر نفسه في العهد الجمهوري، فهل يبقى الوضع على ما هو عليه ويعين شيخ الأزهر بقرار جمهوري ويترك اختياره لرئيس الجمهورية؟