«ظلال الأرز في وادي النيل» لمؤلفه فارس يواكيم، (دار الفارابي 2009) كتاب يستحق أن يدرّس في جامعات العالم العربي كمصدر معلوماتي وسجل تاريخي لأهم فترة ثقافية عاشتها مصر في مختلف مجالات الإعلام والنضال السياسي والفن والأدب. من يذكر، على سبيل المثل، أن أول من أنشأ مطبوعة عربية في مصر هو اللبناني سليم حموي، صدر العدد الأول منها باسم «الكوكب الشرقي» في 20 تموز (يوليو) سنة 1873؟ بعده بفترة وجيزة برز مؤسسو الأهرام، والأخبار والمعارف والهلال، وكلهم «شوام» مشهورون جاؤوا من قرى وبلدات لبنانية، إما مهاجرين أو مولودين من أهل هاجروا إلى مصر. تفاصيل ذلك البنيان الشامخ كانت ستبقى موزعة في بطون الكتب لو لم يجهد فارس يواكيم، بأسلوبه السهل الرصين، لرصد العلاقات الشخصية والمهنية التي ربطت أولئك الرواد وارتبطت بتاريخ مصر الحديث ارتباطاً وثيقاً. مادة الكتاب غزيرة، مكثفة، ومحتشدة بمعلومات يكشف عنها الكاتب للمرة الأولى، أو يستقصي ما كان منها غامضاً أو ملتبساً. ولعل المسألة المحورية في أسباب ونتائج هجرة أولئك اللبنانيين إلى مصر تتعلق بثلاث حقائق: العسف العثماني في بلاد الشام، ظهور الخديوي إسماعيل في مصر، وسفر عدد كبير من اللبنانيين إلى أوروبا خصوصاً فرنسا، حيث قطفوا ثمار عصر النهضة من شجراته الأم قبل أن يؤموا مصر للعيش والعمل. ويقول فارس يواكيم إن الخديوي إسماعيل لعب الدور الجوهري في فتح أبواب مصر للمثقفين والمبدعين من أين أتوا، فهو من بنى دار الأوبرا ونقل هندسة الشوارع الباريسية الى القاهرة وكلف الموسيقار الإيطالي فيردي تأليف أوبرا عايدة، إلى ما هنالك من منجزات عمرانية وثقافية ليس أقلها فتح قناة السويس. إذاً، شكلت مصر الرئة البديل للاختناق الشامي طوال عقود بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فجاءها رواد المسرح والموسيقى والسينما والصحافة والشعر والنضال السياسي من كل حدب وصوب، ويبرهن هذا الكتاب ان أكثرهم تأثيراً في نهضة وادي النيل أتوا من بلاد الأرز. لا نستطيع في هذه العجالة سوى التقاط بعض الإشارات اللافتة من المجالات الستة الواردة في الكتاب: الصحافة، الأدب، الأقلام النسائية، النضال، المسرح والسينما، والموسيقى: نجيب الحداد، مثلاً، كان أول من استعمل كلمة «الصحافة» بمعناها العصري وهو حفيد الأديب الكبير ناصيف اليازجي، عمل محرراً في الأهرام وشارك شقيقه أمين وزميلهما عبده بدران في إصدار صحيفة «لسان العرب» التي تعرضت للمنع والمصادرة من السلطات العثمانية. وكان نجيب الحداد مترجماً فذاً نقل إلى العربية رائعة والتر سكوت «صلاح الدين الأيوبي» وعرّب «روميو وجولييت” لشكسبير وعدداً من أعمال موليير وألكسندر دوما، إضافة إلى كونه شاعراً رثى نفسه بنفسه قبيل وفاته في الإسكندرية سنة 1899: «ولّى النجيب فأرّخوا: قبراً له... قد مات مشتاقاً إلى لبنان». وتجدر الإشارة هنا إلى دور الترجمات الغزيرة التي رعتها دار المعارف بقيادة شفيق متري في مطلع القرن العشرين، فالمعارف التي اهتمت بنشر أعمال طه حسين وأحمد أمين وعباس محمود العقاد وغيرهم من أدباء النهضة العربية أولت الترجمة اهتماماً كبيراً فأصدرت سلسلة «نوابغ الفكر الغربي» واهتمت بالشباب والأطفال فنقلت إليهم كتب تشارلز ديكينز ومارك توين وغيرهما، ناهيك عن إدخال أسلوب المونوتيب الإنكليزي في صنع حروف عربية جديدة للمرة الأولى. ومهما حاولنا القفز فوق صروح او مداميك تلك المرحلة، لا يسعنا إلا التوقف عند شبلي الشميل الذي تحدث قبيل نهاية القرن التاسع عشر في حرية بتنا نشتاقها اليوم عن نظرية النشوء والارتقاء عند داروين ونقل إلى العربية كتاب العلاّمة الألماني بوخنر الذي احتوى على ست محاضرات لشرح تلك النظرية، وردّ الشميل على منتقديه يومئذٍ بقوله: «هذه الرجّة التي حصلت اليوم هي المقصودة مني لإيقاظ الأفكار من نومها العميق، والحركة مهما كانت خير من السكون». ومما لا شك فيه أن النهل من الثقافة الأوروبية أصاب ذلك السكون الذي عناه الشميل بأكثر من حركة، فرأينا فرح أنطون في مطلع القرن العشرين وقد طالع فولتير ونيتشه وكارل ماركس وتولستوي وغوركي وإرنست رينان وعمر الخيام، وكان معجباً بإبن رشد مما كلفه جدالاً كبيراً وخصومة مع الشيخ محمد عبده. «لكنه سجال ارتقى إلى مستوى العلم» بحسب فارس يواكيم. ويأتي عنفوان خليل مطران ليذكرنا بشخصيته المتمردة ومناهضته الواضحة لكل عسف سلطوي إن في الصحافة أو في السياسة، فبعد صدور قانون المطبوعات في مصر كتب المطران قصيدة اعتراض أثارت محمد سعيد رئيس الحكومة الذي هدده بالطرد فكتب رداً: «أنا لا أخاف ولا أرجي... فرسي مؤهبة وسرجي/ لا قول غير الحق لي قول... وهذا النهج نهجي». وعلى رغم عمله في الصحافة والمسرح والأدب، تصدّى المطران أيضاً للترجمة، فعرّب «السيد» لكورناي وكان أول من أطلق إسم «عطيل» على مسرحية شكسبير «أوتيللو». الأقلام النسائية لا تقل تأثيراً وريادة. وهي كثيرة ساهمت في مجالات الصحافة والأدب وأسست عدداً من المجلات بقي بعضها وتوقف بعضها الآخر. ويعتبر فارس يواكيم أن مجلة «الفتاة» التي أصدرتها هند نوفل في الإسكندرية سنة 1892 هي باكورة الصحافة النسائية في مصر. أما الشخصية النسائية الأكثر شهرة وعصرية فهي بلا شك مي زيادة التي عرفت بصالونها الأدبي وصداقاتها الكثيرة مع المبدعين في مصر وبلاد الشام وفي المهاجر البعيدة، خصوصاً الولاياتالمتحدة. عن صالون مي، كتب أحمد شوقي: «أسائل خاطري عما سباني/ أحسن الخلق أم حسن البيان/ رأيت تنافس الحسنين فيها/ كأنهما «لميّة» عاشقان/ إذا نطقت صبا عقلي إليها / وإن بسمت إلي صبا جناني / وما ادري: أتبسم عن حنين إلي بقلبها، أم عن حنان/ أم أن شبابها راثٍ لشيبي / وما أوهى زماني من كياني». روز اليوسف، إسمها الحقيقي فاطمة محمد محيي الدين اليوسف، من مواليد طرابلس، لبنان سنة 1898 هي مؤسسة المجلة التي حملت إسمها ووالدة القاص والروائي إحسان عبدالقدوس. عملت في بداياتها ممثلة مسرحية ووقفت أمام نجيب الريحاني في أعمال كوميدية من إخراج عزيز عيد منها «خللي بالك من إميلي» المقتبسة عن مسرحية لجورج فيدو، ثم انتقلت إلى فرقة جورج أبيض وتألقت في أوبريت «العشرة الطيبة» من تأليف محمود تيمور وألحان سيد درويش، ثم انضمت إلى فرقة يوسف وهبة سنة 1923 وما زالت تنتقل من نجاح إلى نجاح إلى أن فازت بجائزة افضل ممثلة درامية سنة 1925 حين أسست مجلة «روز اليوسف” وانتقلت إلى العمل الصحافي. وتبقى قصة وصول فاطمة اليوسف من لبنان إلى مصر لغزاً حيّر مؤرخي تلك الحقبة، لكن المؤكد أنها يتيمة كادت أن تهاجر إلى البرازيل مع عائلة الجيران سنة 1912 حين توقفت السفينة في الإسكندرية ففرت منها وهي في الرابعة عشرة من عمرها ولجأت إلى بيت إسكندر فرح وكان صاحب فرقة مسرحية في الإسكندرية... من اهل النضال الذين تورطوا في الحياة السياسية يلفت القارئ في شكل خاص أنطون مارون الذي هاجر إلى مصر اواخر القرن التاسع عشر وكان محامياً مؤمناً بقضية الاشتراكية وبالدفاع عن حقوق الإنسان، خصوصاً حقوق العمال. انتمى أنطون مارون إلى اتحاد نقابات العمال المصريين سنة 1921 وكان أمينه العام حسني العرابي. وفي مطلع العام التالي أعلن عمال الكهرباء والغاز إضرابهم بتحريض من العرابي فاعتقلت الشرطة قادة الإضراب وبينهم مارون. ولم يهضم حزب الوفد الحاكم بقيادة زعيمه سعد زغلول حركة العمال والنقابات التي بدأت تحتدم وتتأزم وانتهت بإيداع أنطون مارون ورفاقه السجن حيث أعلن إضراباً عن الطعام احتجاجاً على سوء المعاملة ما ادى إلى وفاته في اليوم الأول من آب (أغسطس) سنة 1925. هنا يطرح السؤال نفسه: كم مناضلاً عربياً صام حتى الموت إيماناً بقضيته منذ استشهاد أنطون مارون؟ ولم يكن مصير المناضل الاشتراكي الآخر رفيق جبور، نسيب الشاعر خليل مطران أفضل من مصير انطون. كان جبور مناوئاً للاحتلال البريطاني وعلى علاقة وطيدة بيساريي أوروبا والشرق الأوسط، وكان من مؤسسي الحزب الاشتراكي المصري وصاحب مجلة «الحساب» ذات الميول الثورية المتطرفة فاتهمته السلطة بتأليف عصابة من العمال والفلاحين لمهاجمة طائفة من السكان... وفي نهاية المطاف جرى إبعاده ثم اغتياله في فلسطين. إلا ان المناضلين من هذا العيار كانوا قلة قليلة، فالسواد الاعظم من المهاجرين اللبنانيين الى مصر آثروا عدم التدخل في السياسة الداخلية، ولو ان بعضهم انبرى للدفاع عن ظلم هنا او تقصير هناك، خصوصاً لنصرة قضية التحرر النسائي التي بلغت في تلك المرحلة شأواً يبدو اليوم بالمقارنة من رابع المستحيلات. ولا تقل ريادة أولئك «الشوام» في المجالات الفنية إبداعاً وطليعية عن مواطنيهم في الصحافة والادب والنضال، فكان عزيز عيد أول من مارس مهنة المسرح بالمعنى الاحترافي في مصر، إذ أضاف اليها الاخراج حين كان «المشخصون» يصعدون الى الخشبة عشوائياً من دون سينوغرافيا، أي من دون ملابس مصممة في شكل مدروس وأضواء مبرمجة وديكورات مناسبة. وانطلق عزيز عيد الى جانب رفيق دراسته نجيب الريحاني ليصبح المخرج المسرحي الأكثر غزارة وابتكاراً قرابة نصف قرن شكلت الفترة الذهبية للمسرح في مصر. وفي مطلع القرن العشرين كان جورج أبيض أول موفد رسمي من مصر الى باريس لدراسة المسرح، سافر بمنحة من الخديوي اسماعيل وعاد سنة 1910 بعد ست سنوات من الدراسة والممارسة مصطحباً معه فرقة مسرحية فرنسية قدمت عروضها في دار الأوبرا، ثم قدم في المكان نفسه مسرحية شعرية لحافظ إبراهيم عنوانها «جريح بيروت» وكرّت السبحة بعدئذ عروضاً كلاسيكية عالمية شملت سوفوكليس وشكسبير، وكان جورج أبيض أول من قدم سيّد درويش على المسرح... بشارة واكيم وعبدالسلام النابلسي وآسيا داغر وماري كويني ويوسف معلوف وعايدة هلال (لوريس نقولا نصر) وعلوية جميل (إليصابات خليل مجدلاني) وأخيراً لا آخراً يوسف شاهين، كلهم إما ولدوا في لبنان أو من مهاجرين لبنانيين، وكانت مساهماتهم في السينما والمسرح جذوراً عميقة لأرزة ثقافية في وادي النيل.