لماذا لم تتحول حركة الاحتجاجات والتظاهرات في سورية إلى حالة من الثورة العارمة كما جرى في مصر وتونس؟ وبالمقابل لماذا لم تتراجع وتتوقف هذه الاحتجاجات؟ ولماذا ارتفع منسوب خطابها وامتدادها الجغرافي وإن كان بوتيرة متباطئة؟ وأخيراً لماذا لم يجرِ اختراق سياسي جاد من قبل السلطة تجاه المجتمع؟ السؤال الأول يمكن الإجابة عنه بتقسيم الشعب السوري إلى ثلاثة فئات: - فئة مع الرئيس الأسد ومع النظام، وليس لديها مانع من إجراء إصلاحات ما، وهي فئة قليلة ذات أبعاد طائفية. - فئة ليست مع الرئيس الأسد وليست مع النظام، وتريد إسقاط الطرفين معاً مهما كانت التكلفة، وهي أيضاً فئة قليلة وتحمل في ثناياها أبعاداً طائفية. - الفئة الثالثة، هي مع الرئيس الأسد لكنها ليست مع النظام، وهي الفئة الأكثر انتشاراً، وربما تعكس مجمل الشارع السوري. هذه الفئة تريد بقاء الأسد رئيساً للدولة (تمييز الدولة عن النظام)، لكن لديها مشكلة كبيرة مع النظام، ومع أساليبه الأمنية طوال عقود مضت، غير أن هذه الفئة تخشى أن يؤدي إسقاط النظام إلى فتنة داخلية في مجتمع قائم على الطوائف والعشائر، وبالتالي تخسر ما تم تحقيقه طوال عقود الاستقرار بحيث تنتهي الأمور إلى حالة لا يوجد فيها لا استقرار ولا حرية، بل فوضى. ولذلك تميل هذه الفئة (رجال أعمال، كتاب وباحثون، إعلاميون، تكنوقراط، رجال دين، مهنيون، مواطنين عاديون لم يتأذوا في شكل مباشر من النظام) إلى إصلاح النظام من الداخل، شرط أن يكون إصلاحاً جاداً وليس شكلياً، يقطع تاريخياً مع المرحلة السابقة ويؤسس لمرحلة جديدة عنوانها دولة القانون والمؤسسات، ولهذا يمكن فهم عدم مشاركة هذه الفئة الكبيرة في التظاهرات. وفي ما يتعلق بالسؤال الثاني، يمكن القول إن انتشار التظاهرات في المدن والقرى ناجم عن حالة من عدم الثقة بين المتظاهرين والنظام: الطرف الأول يتحدث عن سلمية التظاهرات، فيما يتحدث الطرف الثاني عن الإرهابيين والمندسين. وفي ظل احتكام القوى الأمنية للعنف، وغياب أي أفق حقيقي لإجراء إصلاحات عميقة، وصل المتظاهرون إلى قناعة مفادها أن انتهاء حالة الاحتجاج من دون الحصول على مكتسبات سياسية سيؤدي إلى انتكاسة في المشهد السياسي العام، والانتقال إلى مرحلة أسوأ مما كانت عليه الأمور قبل بدء التظاهرات. هنا يمكن فهم توسع التظاهرات وارتفاع مستوى مطالبها، وإن كان مطلب إسقاط النظام لدى البعض ليس إلا تكتيكاً للحصول على تنازلات سياسية، في حين بدا لدى آخرين مطلب استراتيجي، يسعى أصحابه إلى جر النظام الى استخدام العنف على أمل حدوث تغيير في المواقف الدولية، يبدأ بضغوط خارجية قوية، وربما ينتهي بتدخل عسكري من المجتمع الدولي من جهة، ودفع فئات الشعب الأخرى للمشاركة في الحركة الاحتجاجية من جهة ثانية. أما لماذا لم تقدم الدولة على إجراء إصلاحات جذرية وعميقة حتى الآن؟ جزء من الإجابة يعود إلى الماضي، فحالة الجمود التي حكمت البلاد طوال سنين طويلة وغياب أي حراك سياسي فاعل، مع هيمنة أمنية قوية على المؤسسات، كل ذلك أدى إلى نشوء ذهنية في أروقة الدولة لا تتقبل أي مشاركة سياسية في الحكم. والجزء الثاني من الاجابة يرتبط بحاضرنا اليوم، حيث يمكن القول إن ثمة تيارين يتنازعان: أولهما يدفع الى استخدام العنف حتى النهاية للقضاء على ظاهرة الاحتجاج الدخيلة على سورية، والتيار الثاني يعتبر استخدام العنف بشكل مضبوط أداة تكتيكية ضرورية لفرض وقائع على الأرض تسمح في ما بعد للنظام إجراء إصلاحات لا تؤدي إلى خسائر سياسية واقتصادية كبيرة. وبالمناسبة لا ينتمي الرئيس الأسد إلى هذين التيارين. فالمعلومات الواردة من لقاءاته مع الوفود الشعبية تؤكد رغبته في الانتقال بسورية نحو حكم ديموقراطي متعدد، لكن الأسد كأي رئيس في العالم ليس مطلق القوة، لا سيما في نظام بلغ من العمر عتياً. أمام هذا الواقع برزت مؤخراً ثلاثة تطورات في مسار الأحداث، أولها حجم القتلى الكبير خلال أيام معدودة، والثاني بدء المعارضة تنظيم نفسها في الخارج، والثالث حراك السلطة السياسي بإعلان عفو عام وتشكيل لجنة حوار وطني وإعداد لجنة لقانون الأحزاب. هنا يتصارع الحل الأمني الذي سقط فعلياً على ارض الواقع، مع الحل السياسي. هذا الصراع سيحدد وجهة سورية خلال المرحلة المقبلة، لكن المعطيات على الأرض تشير الى أن الرئيس الأسد لن يسقط بسبب شرعيته في الشارع، كما تشير إلى استحالة العودة إلى ما قبل آذار (مارس) الماضي، وبين هذين الوضعين ثمة هوامش كبيرة. * كاتب واعلامي سوري