رحلت الشاعرة اللبنانية صباح زوين عن سبعة وخمسين عاماً قضت ردحاً طويلاً منها منكبة على الكتابة والترجمة، متنقلة بين لغات عدة، العربية والفرنسية والإسبانية، وهذه أخذتها عن والدتها الأرجنتينية. وكانت استهلت مسارها الشعري بالفرنسية فأصدرت فيها ديوانين (على رصيف عارٍ، هيام أو وثنية) شابتهما لغة خاصة بها وتعابير وتراكيب هي على مقدار من التوتر. ونمّت قصائدها بالفرنسية عن نفَس شعري طالع من روحها وجسدها في آن، فيه من تلقائية التعبير ما فيه من الاغتراب في الخيال والجموح في اقتحام المحرم الشعري. لكنّ الشاعرة ما لبثت أن أدركت أنّ الكتابة لا تكون إلا باللغة الأم، لغة الأرض والناس، لغة الوجدان والذاكرة، بخاصة عندما عادت من غربتها في كندا، فأقبلت على العربية درساً وقراءة حتى تمكنت منها، وأتقنتها خلال فترة قصيرة وأضحت ملمة بها، بقواعدها وأسرارها الصغيرة. ولعل ما ميز شعرها بالعربية لاحقاً هو انفتاحه على اللغتين الفرنسية والإسبانية، على إيقاعاتهما وخصائصهما اللغوية. وكان على شعرها أن يبدو مختلفاً وغريباً، عماده تفكيك بنية الجمل ومعاودة صوغها انطلاقاً من المفردات المضمرة التي جعلت القصيدة لديها ناقصة ظاهراً ومكتملة باطناً. حتى عناوين بعض دواوينها ارتأتها شبه ناقصة، ومنها على سبيل المثل: «بدءاً من أو ربما»، «كما لو أن خللاً أو في خلل المكان»، «لأني وكأني ولست»... وهذه اللعبة التي يجيدها بعض الشعراء الفرنسيين، أضفت على شعرها طابعاً اختبارياً قائماً على الإيحاء بالمعنى المكتمل عبر عدم اكتمال الكلمات. وقد مدّها التوتر الذي كان سمة من سماتها، بإيقاع لغوي، ينفصل ويتقطّع، ينقبض ويحتدّ، ليتراخى من ثم تراخي الكتابة الحلمية، السوريالية المنابت. لم تلتزم صباح زوين مدرسة واحدة أو نهجاً واحداً في الكتابة الشعرية، كتبت القصيدة النثرية الحرة والقصيدة القصيرة جداً، الشديدة الكثافة، والنص الشعري المفتوح على إمكانات اللغة وألعابها الغريبة. بدأت تجربتها في ما يشبه المغامرة وظلت تغامر طوال حياتها، مقتربة في أحيان كثيرة من تخوم المخاطرة. ولم تكن تتراجع، همّها المضي في الكتابة المختلفة التي لا تشبه كتابة أحد سواها. لكنها لم تكن غريبة عن المناخ الشعري الذي تفتحت فيه، أخذت من بعض نماذجه منطلقات لتصنع أفقها المتفرد، في جماليته المتوترة والمتنافرة ظاهراً أو شكلاً. كانت صباح زوين شاعرة قلقة، وكان الموت أكثر ما يقلقها، الموت كفعل خارجي وكحدث في الجسد والحواس وليس كحتمية وجودية وكحقيقة ميتافيزيقية وروحية. وكانت صارمة في مواجهة الموت الخارجي، وصارمة في احترام سلامة الجسد على طريقة البوذيين والمتصوفة، لا تقرب اللحوم ولا المشروب ولا التدخين. كانت شاعرة نباتية، تكره الشراهة إلا في الكتابة والترجمة. لكن مسلكها السليم هذا لم يخفف من حماستها وحميّاها وتوترها الدائم ومزاجها المتقلب. وكانت تشعر في عمق وجدانها بأنها مظلومة، وبأنها كشاعرة، لم تنل ما تستحقه من ترحاب نقدي وترجمة وشهرة... لكنها على خلاف ما تظن، نالت قسطاً من الشهرة والتقدير والانتشار، لا سيما في زمن الإنترنت الذي كانت من رواده الدائمين، وكُتبت عنها مقالات وترجم شعرها إلى بضع لغات وكانت هي في أحيان تشرف على ترجمة قصائدها. لعله القلق الوجودي الذي عاشته حتى اللحظة الأخيرة جعلها شاعرة غاية في النزق والانفعال الجميل. كان لصباح زوين نشاط مهم في حقل الترجمة من الفرنسية والإسبانية بخاصة. ترجمت أعمالاً شعرية وروائية من هاتين اللغتين وترجمت من العربية إليهما شعراً ونصوصاً جمة. وأعدت أكثر من أنطولوجيا للشعر العربي بالإسبانية وأنطولوجيا للشعر الأرجنتيني بالعربية. وعرّفت القراء العرب بالشعر الإسباني الجديد والراهن من خلال النماذج التي اختارتها وترجمتها.