2002) أبرز علماء الاجتماع الفرنسيين؛ درسَ في جامعة السوربون ثم في جامعة ليل، له مدرسة سوسيولوجية خاصة به ركّز فيها على الممارسات الثقافية والسلطوية. وقد صدرت أخيراً ترجمة المحاضرات التي ألقاها في المجمع العلمي الفرنسي حول الدولة، في كتاب بتوقيع المترجم نصير مروة لمركز الدراسات العربية في بيروت. سؤال الدولة يبدو الآن حاضراً بقوة بعد 16 سنة على رحيل بورديو، في ظل التطورات الأخيرة؛ والكتاب يعكس خبرته عبر التقاطه طبيعة الدولة الفرنسية بخاصة والدولة الغربية بعامة. لذا نراه يصف الدولة على النحو التالي: الدولة ليست كتلة، إنها حقل، الحقل الإداري، من حيث هو قطاع خاص من حقل السلطان أو السلطة، هو حقل أي أنه حيز ببنية منتظمة أو مهيكلة وفق تضادات ترتبط بأشكال من رأس المال النوعي، ومن المصالح المختلفة، هذه التناحرات التي تدور في هذا الحيز لها صلة ما بتقسيم الوظائف التنظيمية المرتبطة بمختلف الهيئات المقابلة، التعارض بين وزارات مال (تحصيلية) ووزرات إنفاقيه أو اجتماعية هي جزء من سوسيولوجيا كبار الموظفين العفوية، وما دامت هناك وزارات اجتماعية، سيظل ثمة شكل من الدفاع عن الاجتماعي وما دامت هناك وزارة تربية وطنية، سيظل هناك دفاع عن التربية، ودفاع مستقل وإلى حد بعيد، عن خصائص من يشغلون هذه المواقف». بيار بورديو أدرك في محاضراته أن الدولة هي أساس التنظيم في المجتمع، وأنها أساس المبادلات والتداول بما في ذلك ما يفضي إلى النقاش العام في المجتمع، هنا تظهر الدولة كمؤسسة تهدف إلى خدمة المصلحة العامة المشتركة، بينما تهدف الحكومة إلى مصلحة الشعب وخيره. فلسفة بورديو كانت عميقة إلى حد كبير في محاضراته حتى نراه يسبر غور الرأي العام فيتساءل: ما هو الرأي العام الذي يستشهد به خالقو الحقوق ومبدعوها في المجتمعات الحديثة، المجتمعات التي فيها حقوق وقانون؟ إنه ضمناً رأي الجميع، رأى غالبية من يعتد بهم، والأكثرية ممن هم جديرون بأن يكون لهم رأس. هنا هو يسألك في الرأي العام وكونه حيلة يتم اللجوء إليها أحياناً لصناعة رأي عام فعلي، عندها يتم تكوين لجنة من أصحاب الرأي والخبرة، تدرس اللجنة عبر عملها أجوبة عن مشكلات لم يطرحها المجتمع أحياناً، ولكنها طرحت عليه، هنا نرى بيار بورديو يذهب إلى أن وسائط الإقناع هي إحدى أدوات الدولة في إخضاعها للمجتمع، فمفهومه للدولة أوسع بكثير من مفهوم ماكس فيبر الذي جعله قائماً على احتكار العنف المادي، بينما بورديو يقفز عليه إلى أن النظام العمومي أي الدولة يجب أن يستند إلى الرضى ضارباً مثلاً برضوخنا للنظام العام في العمل، فالعامل أو الموظف برضاه ينهض من نومه في ساعة محددة يفترض به أنه قبلها طواعية، هنا تراه يصك مصطلح الزمان العمومي مستعيناً بكتاب لوسيان فيز الذائع الصيت عن رابليه، فهناك أشياء مهمة في ما يتعلق بالاستخدام الاجتماعي للزمان، والضبط الجماعي للزمان، ما نعتبره الآن، مع ساعات الحائط التي تدق تقريباً في الساعة ذاتها، وحيازة الناس جميعاً ساعات يد أو حملهم لها، تحصيل حاصل، على رغم تغلغل الضبط الزمني في شتى مناحي حياتنا، فالمواعيد والاجتماعات المحددة وأوقات العمل والإجازات والأعياد كلها في الزمان العمومي وضرب من المحاسبة الزمنية، هنا يثبت بيار بورديو كيفية عمل الدولة وفعلها في الفضاء العمومي هذا البعد الفلسفي مهم لفهم الدولة في عصرنا، لذا نراه يجذر الدولة من عمق تاريخي فهو يرى أنه ليس مصادفة أن يكون ثمة صلة بين الدولة والإحصاء، يقول المؤرخون إن الدولة تبدأ مع إحصاء النفوس، ومع التحريات والتحقيقات في شأن الأرزاق بمنطق ضريبي، ذلك أن فرض الضريبة يقتضي معرفة ما يمتلكه الناس، فالمؤرخون ينطلقون من العلاقة بين إحصاء السكان والمأمور الروماني الذي كان يضع التقسيمات. هنا نرى بيار بورديو يقر أننا خاضعون لترميز الدولة، والدولة تحيلنا إلى كم أو كمية، بل إن لدينا هوية دولة. وبطبيعة الحال فإن بين وظائف الدولة وظيفة إنتاج الهوية الاجتماعية المشروعة، بمعنى أنه حتى لو كنا غير موافقين على هذه الهويات في رأيه، فإنه لا بد لنا من التعايش معها، من هنا فإنه يستخلص أن الدولة هي هذا الوهم ذو الأساس المكين، هذا الحيز الموجود أساساً بسبب أننا نعتقد أنه موجود، هذه الحقيقة المقررة والمصادق عليها عبر الإجماع، هي الحيز الذي نحال إليه: شهادات مدرسية، شهادات مهنية، الحقيقة الملغزة موجودة عبر مفاعليها وبفعل الاعتقاد الجماعي. كان بيار بورديو في رؤيته كان سابقاً لعصره حينما أكد أن التكنولوجيا وفي حقبته التلفاز صارت فاعلة سياسياً، فالدوائر السياسية أصبحت أكثر اتساعاً من ذي قبل، ولو عاش بورديو إلى وقتنا وأدرك تصاعد شبكات التواصل الاجتماعي، لجعلها أحد الفواعل الرئيسية في الحيز السياسي. عبر صفحات الكتاب؛ سنرى بيار بورديو يرجع دائماً إلى مكوناته المعرفية منذ أن عمل في الجزائر بخاصة، فعمله في بلاد القبائل صاغ له فكرة رأس المال الرمزي التي هي فكرة مركزية في أعماله، وعمله في دراسة الفلاحين البيارينيين التي يفهم من خلالها الدولة السلالية وطريقة عملها، وهناك أخيراً التحقيقات حول الوظيفة العمومية العليا التي قام بها أعضاء مركز علم الاجتماع الأوروبي تحت إشرافه. تكمن أهمية ترجمة هذا الكتاب إلى العربية، في أنه كاشف لقصور علماء الاجتماع العرب في دراسة تجربة الدولة الوطنية العربية من منظور علم الاجتماع، وطرح تساؤلات عميقة حول أسباب فشل هذه الدولة، حتى في حالات صارخة كاليمن حيث ما زالت القبلية غالبة على الدولة ومهيمنة عليها، أو في ليبيا حيث العبث في مساحة العلاقة بين الدولة والقبيلة والحضر، وبين الدولة السلطوية التي لم تحقق أي قدر من التنمية لشعبها، بل فاعلية هذه الدولة ومدى تعبيرها عن مجتمعها.