هناك كتاب بعنوان (هومو أكاديميكوس) (أي: رجل أكاديمي) وهو للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيير بورديو. في الكتاب يطبق بورديو نظريته في الحقل والهابيتوس والسلطة على المجال الأكاديمي. يشرح بورديو نظريته باستعارة من مجال (اللعبة). لعبة كرة القدم أو الرجبي مثلا. الحقل هو اللعبة بقوانينها وعناصرها والمتنافسين فيها .. والغاية هو الفوز بالجائزة. والهابيتوس هي المهارة التي يمتلكها كل لاعب.. والمهارة هنا ليست مجرد موهبة فطرية بل هي استعداد واكتساب وتدريب. فالطفل الذي يحب اللعبة ويمارسها باستمرار يبدأ باختزان المهارات في ذاكرته (الجسدية) وهي مهارات لا تأتي بالطلب المباشر بل تخرج عفوية تلقائية أثناء المباراة. يقول بورديو: نحن كلاعبين لا نبتكر اللعبة وقوانينها بل نحن بالأحرى «نتيجة لها». وهذا صحيح.. فالفتى الذي يحب كرة القدم لم يخترعها بل إن كرة القدم بقوانينها هي التي اخترعته كلاعب كرة قدم والدليل أنه لا يوجد لاعب كرة قدم قبل اختراع كرة القدم أساسا. لكن ما يركز عليه بورديو ليس مجرد تاريخ اللعبة بل قوانينها. إنها قوانين اعتباطية.. أي مصنوعة صنعا من قبل البشر.. ومن ثم فهي قابلة للتغيير والتجديد. ففي كرة القدم، قد يجوز إنقاص اللاعبين من أحد عشر لاعبا إلى تسعة أو زيادتهم إلى ثلاثة عشر. وقد يجوز إلغاء التسلل أو إلغاء الأشواط الإضافية أو الهدف الذهبي.. إلخ. الشاهد أن هذه التقاليد ليست طبيعية.. بل هي اصطلاحية وقد أنشأها أفراد مثلنا ولكنهم حازوا على سلطة التشريع وسن الأنظمة لأسباب عدة؛ كتقدمهم في الزمن أو انتمائهم لطبقات أرقى سياسيا واقتصاديا أو ببساطة لأنهم «الأقوى» كما يرى نيتشه. الآن، طبق هذه الفكرة على بقية مجالات الحياة الاجتماعية. هناك حقل التعليم (لعبة التعليم) وهناك لعبة الاقتصاد. ولعبة الحرب.. إلخ. وكل لعبة لها حقلها ولها أفرادها وهؤلاء الأفراد لهم «هابيتوس».. أي قدرات لإدراك قوانين اللعبة وحدودها. والفرد الذي يتجاوز الحدود يخسر اللعبة تماما. لننظر في لعبة الأكاديميا. كلية الفلسفة في الجامعة الفلانية تعتبر أن فلسفة هايدجر هراء وفكر سارتر انحطاط. وبالمقابل ترى أن فلسفة فتغنشتاين وأوستن وديفيدسون هي الفلسفة الأصيلة. الحقل هنا هو الفلسفة التحليلية وهي تستلهم أصولها من الفكر التجريبي والعلمي وترفض أفكار الوجودية والفنينومينولوجية عند سارتر وهايدجر وغادامير باعتبارها ميتافيزيقا مثالية. والهابيتوس هي قدرة الطالب على معرفة حدود البحث الأكاديمي لهذه الجامعة وبالتالي التزامه بتلك الحدود فلا يتهور ويقدم رسالة ماجستير أو دكتوراه في ما هو خارج حدود الحقل الأكاديمي المعترف به. المشكلة حسب بورديو أن الجامعة هنا لم تعد كما كنا نظن منبرا للمعرفة بل مجرد ميدان لممارسة السلطة . فالهيئة التدريسية في الجامعة الفلانية لا يهمها الحقيقة بل المحافظة على الأصول والحدود التي تنظم الممارسة الأكاديمية وتقرر ما هو البحث الذي يستحق صاحبه الشهادة العلمية. لقد كتب بورديو هذا الكتاب قبل نصف قرن.. ولكن المعضلة لازالت قائمة.. في جامعاتنا وفي جامعات فرنسا وأمريكا. وإذا كانت الجامعة في بلدان مشهورة بالحرية الفكرية تمارس قمعا على الفكر فكيف بجامعاتنا في العالم الثالث التي تعتبر حرية الفكر والبحث خروجا على ثوابت الأمة؟.