في منتصف العقد الماضي، قدم إلى السعودية مجموعة من الباحثين الفرنسيين ليقوموا بدراسات ميدانية في مختلف المجالات، بعض هذه الدراسات تم نشره وترجمته، مثل كتاب «زمن الصحوة» لستيفن لاكروا، وكتاب «علماء الإسلام» لمحمد ملين، وغيرهما نشر ولكنه لم يترجم بعد مثل كتاب «اللغز السعودي» لباسكال مونريه، ودراسات إيميلي لو رينارد عن النساء والفضاءات العامة في السعودية. الذي لفت انتباهي في هذه الدراسات هو الاستخدام المكثف لأطروحات ومفاهيم عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي بيار بورديو، الذي ترجم للعربية عدداً من كتبه مثل «الهيمنة الذكورية»، و«إعادة الإنتاج»، و«العقلانية العملية»، و«العنف الرمزي»... وغيرها. وجد بيار بورديو (1930 - 2002) ميدان العلوم الاجتماعية في فرنسا، خمسينات القرن الماضي، مُهيمناً عليه من اتجاهين: الأول هو تيار البنيوية الوضعية الذي دشنه ليفي شتراوس، والآخر هو الوجودية الذاتوية المنبثقة من أعمال سارتر. فقامت نظرياته ومفاهيمه على محاولة تجاوز صراع الثنائيات هذا المستعر في عصره (بين الذاتي والموضوعي، بين البنية والفاعل التاريخي...) بطريقة تؤكد على الوصل بين هذه الثنائيات وتعقيد الظاهرة الاجتماعية، ومدى سطحية اختزالها لبعد واحد أو جانب واحد من النظر، فكانت نظرته للمجتمع تنطلق من ثلاثة مستويات: مستوى الفرد، والمستوى المؤسساتي، والمستوى الكلي. فعلى مستوى الفرد، يقدم لنا بورديو مفهوم «رأس المال». فبعيداً من حصر «رأس المال» في المجال الاقتصادي، قام بورديو بطرح أنواع عدة من «رأس المال»، كرأس المال الثقافي، والرمزي، والاجتماعي، الذي يمكّن الفاعل الاجتماعي، عبر الاستحواذ عليه، من تحقيق خياراته، فعلى سبيل المثال يعتمد الارتقاء في المؤسسة الدينية على مقدار العلم الشرعي «الذي يلعب هنا دور رأس المال» ويعترف به الموجودون في هذه المؤسسة لأحد أفرادها، إذ بحجم استزادته منه، يتمكن من تحقيق الكثير من خياراته ومن دون أن يحتاج أن يتوفر على «رأس مال مادي». أما على المستوى المؤسساتي، إذ يشتبك المستوى الفردي مع المستوى العام، نجد أهم مفاهيم بورديو: ال«هابيتوس». ويعرفها بأنها «مبدأ توليد الاستراتيجية التي تمكن الفاعلين من التعامل مع الأوضاع المتوقعة والدائمة التغير»... أي نظام مكون من مراكمة مستمرة للخبرات السابقة المتمازجة مع مجموعة من التصورات المتبدلة التي تمكن من توليد أعمال واستجابات متنوعة ومتفاوتة للأحداث المتنوعة، فكما أن زجاج النافذة لا ينكسر لأن حجراً ألقي عليه، بل لأنه «قابل للكسر»، فكذلك يمكن القول - كما يؤكد بورديو - أن حادثة تاريخية ليست هي سبب تغير السلوك، بقدر ما أن ال«هابيتوس» كان في وضعية تجعل استجابته لهذا الحدث أكثر من غيره من الأحداث. ويأتي مفهوم «المجال» باعتباره المفهوم الذي يقدمه بورديو للتعامل مع المجتمع على المستوى الكلي. فالأفراد بما يتمتعون به من رأسمال، وما يولدونه من «هابيتوس» على المستوى المؤسسي إنما يحدثان داخل فضاء أعم يدعى «مجال»، يمثل «المجال» الفضاء الذي يتصارع فيه الفاعلون ويتنافسون فيه على الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من «رأس المال» الذي يحدده ويقسمه هذا المجال عبر الكثير من المؤسسات، فمجموع الجامعات ومراكز الأبحاث العلمية تمثل بمجموعها مجالاً، تتنافس فيه المؤسسات والأفراد على الاستئثار بأكبر قدر ممكن من رأسماله، الذي هو البحث العلمي وجودة المخرجات الأكاديمية والرصانة البحثية...إلخ. فيكون المنطق الذي يخضع له الأفراد في هذا المجال، من ناحية البروز ولفت الانتباه، يخضع لرأس المال الخاص به، أي التميز البحثي والعلمي، لا حجم الأموال والثروات المادية. وعبر هذا التقديم المقتضب لأهم مفاهيم بورديو تتجلى لنا نظرته المتعددة الزوايا للمجتمع باعتباره ظاهرة معقدة، فهو يقسمه إلى مجالات: ثقافي، اقتصادي، سياسي... إلخ، ثم داخل كل مجال يدرس علاقات الأفراد وصراعاتهم وتحالفاتهم، من خلال مدى تحصيلهم لرأس المال المعنوي الذي ينظمه هذا المجال، عبر التنوع بما يحملونه من «هابيتوس». ومن هذه الرؤية المتعددة الأبعاد والمعقدة، نهل الباحثون الفرنسيون الذين قدموا السعودية أدواتهم البحثية لتحليل الظواهر المتنوعة فيه. كان بورديو واحداً من بين فلاسفة عدة أثروا الساحة الفكرية الفرنسية بأطروحاتهم المتنوعة. فإلى جانب كل من لاكان وميشيل فوكو وبول ريكور وجاك دريدا ورولان بارت ودولوز، كان بورديو فيلسوفاً أصيلاً حاول قدر الإمكان القطيعة مع الثنائيات التي تحكمت في ميدان العلوم الاجتماعية وتأسيس نظرية عامة في الاجتماع. وقراءة بورديو وحده لا تكفي، فإضافة إلى التعرف عليه، لا بد من التعرف على أهم النقودات التي وجهت إليه، وذلك حتى نستطيع قراءة أبحاث من استلهموا مفاهيمه من الباحثين الفرنسيين في قراءة مجتمعنا قراءة نقدية تسمح لنا بالتفاعل معها عوضاً عن مجرد الاكتفاء بها وتوظيفها. * كاتب سعودي مبتعث في أميركا. [email protected] sultaan_1@