عندما يسْتَدِقُّ الالتقاطُ الشعريُّ ويرهَفُ؛ لا ليتأملَ زراراً منسياً من ياقة، وإنما للخيط الخارج من ذلك الثقب بوسط الزرار في ياقة الجالس بالجهة المقابلة؛ وعندما يتم تخييل الذات وتبْئيرُ ضآلتها وعزلتها في حبة قمح تحتسي قهوتها مع نملة وحيدة أسفل رصيف تعلوه أقدام المارة؛ عندما يصبح الالتقاط والتصوير على هذا النحو؛ نكون وقتها أمام عين تنبئ بشعرية جدُّ حساسة؛ ومتنبهة إلى أن ما يتم التقاطُهُ وتسليطُ الضوءِ عليه؛ إنما هو شذْرةٌ بصرية، ضمن مشهد كلي، محكوم برؤية سنوغرافية متكاملة. رؤية تتكئ على خلفية ثقافة «الكتلة الفنية» التي تمتزج فيها فنون «التشكيل والفوتوغراف، والسينما والمسرح والموسيقى». إنها ثقافةُ العيونِ المدرَّبة لجيل «تولى تثقيف نفسه بنفسه؛ عبر خياراته التقنية اللا محدودة بنخبوية تداول المعرفة»، جيل نبت من كون الشاشة؛ نافذته الكونية للمثاقفة والاطلاع الحر؛ من دون أي وصايات لنسقيات سابقة عليه؛ فكوّن طقوسه في ممارسة الكتابة والقراءة وفق أدبيات الوسائط الإلكترونية. الأمر الذي بدأ يثمر عدداً من الحساسيات الجديدة، لعل مجموعة «النصف المضيء من الباب الموارب» الشعرية؛ لنور البواردي «دار الغاوون 2011». تمثل أنموذجها المختبري. بدءاً من العتبات؛ نجد أن البعد السنوغرافي؛ والوعي بأهمية الإضاءة واللون ومنظومة التشكيل البصري ماثلة وبقوة؛ من خلال التصميم البسيط والعميق للكتاب في آن واحد. فاللون الرمادي بتدرجاته المختلفة، هو اللون الوحيد المسيطر على الغلافين؛ جاء ليجسّد حالة الحياد أو التردد بين عالمي الأسود والأبيض، وعالم الألوان. ولوحة الغلاف «رسمت اللوحة ريا بنجر وصممت الغلاف (إيمان مرزوق) التي تجسّد صورة امرأة في وضعية انتظار طويل وبخصلة شعر بيضاء، تجلس أمام مرآة انعكاسها، أيضاً بتدرجات اللون الرمادي، تمثيلٌ فنيٌّ ينسجم مع حالة التردد بين العالمين الذات والخارج، والحيرة الطويلة بينهما. وإذا كان عنوان الكتاب - القائم على رؤية سنوغرافية ومفارقة «ضَوْئِحَرَكِيّة» - يمثّل مفتاحاً رؤيوياً لعوالم الكتاب وعتبته الأولى؛ فإن الغلاف الأخير حوى بدوره عتبات لا تقل أهمية. إذ حمل أربعة مقاطع تجسّد انشطار المشهدية التصويرية في الكتاب إلى عالمَي وموقعَي تصوير متناوبَي الظهور. أحدهما خارجي، والآخر داخلي. بحيث تتشكل من مجموعهما الرؤية الإخراجية الكلية لجانب كبير من تقنيات النصوص. تتمثل المشهدية الخارجية عبر: «ما أتذكَّرهُ/ أني كنتُ أطِلُّ من ثُقبِ البَابِ/ قبْلَ أنْ يُديرَ أحدُهُم المفْتَاح/ وأُشاهِدَ بوضُوحٍ كُلَّ ما يحْدُث». بينما تَمْثُلُ المشهديةُ المرتدة للداخل في: «الوَلدُ الخَجولُ/ يَرْسُمُ في كَفّي نافِذَةً/ يُمثِّلُ دَوْرَ اللِّصِّ/ ثُمَّ يَدْخُلُني». تتكرس هذه المشهدية أيضاً عبر أول مقاطع الكتاب: «مشهد جماعي سيئ...»: «أطِيلُ النَّظرَ مِنْ ثُقْبِ البَاب/ إلَى سيِّدةٍ في المَطْبخِ/ إلى قهْوَةِ الصَّبَاحِ المُعَدّةِ لرجُلٍ لا يحْتسيها، أبَداً/ إلى بنْتٍ تَصْنَعُ مِنْ وجْهِهَا طَوابِعَ بَريد/ إلى عَجوزٍ يَطْوي حزنَهُ ويخْفيهِ جيَّداً، في دُرْجِ الخزَانَة/ إلى ظِلٍّ مِنِّي يَقتَرِب». ثمة كاميرا تتحرك لتمسح المشهد في لقطة كلية «أطيل النظر من ثقب الباب» يتضح عبرها «سيدة ورجل وبنت وعجوز»؛ شخصياتٌ اختيارُها ليس صدفة؛ فهي ثرية بتنوعها عبر تضادِّ وتناقضِ عوالمها النفسية والعمرية. مع تركيز على دائرة الوحدة والعزلة التي تغلّف بالأساس شخصيةَ البنتِ وتنعكس من ثَمَّ على كل شخصية. المرأة التي تواصل إعداد قهوة لرجل لا يحتسيها؛ البنت التي مع كل طابع بريد تصنعه من ملامح وجهها، تخلق أمنية وحلماً لجهةٍ ما تتوق بها للخارج؛ فيما العجوز يرتد لداخل الداخل. وتأتي طريقة رسم الحروف في الجملة الأخيرة؛ لتجسِّد بصرياً عملية تدرّج الظل واقترابه؛ بما يجسد الرؤية الإخراجية المحكمة؛ حركة الظل وحده في عملية زحفه في اتجاه واحد. من هنا يتضح توظيف المخزون الثقافي المتكئ على مزيج من الخبرات المسرحية والسينمائية. «صَوْتي مَبتورٌ الأصَابِعِ لا يَصِلُكَ.. لا يَكْتُبُكَ!/ صوتي يَقِفُ خلفَكَ.. يتألَّمُ/ صوتي الذي هَرِعَ قديماً عادَ الآن لئيماً ويكْرَهُكَ/ الأيامُ مشاهدُ سينمائيةٌ لفيلمٍ سخيفٍ لا يحْضُرُهُ أحد/ وحْدي في الصَّالةِ الواسِعَةِ أتابعُ اللحظَةَ التي أدَرْتَ فيها وَجْهَكَ، وغيّبكَ الانعطافُ الحَادّ». وإذا كان التشكيل السابق للصوت يتتابع في حركة تصوير مستمرة ولا تتوقف عن التتابع الحركي للصور؛ ففي المقابل نجد ما يشبه تثبيت «الزوم» عند لحظة «صِفْرية» تتجمد فيها الحالة عند لقطة معينة؛ وتحيلها إلى استنطاقٍ لافتٍ «البنتُ الواقفَةُ يسارَ الصورةِ/ التي طلَبْتَ منها أن تنزاحَ قليلاً؛ ليبدوَ وجهكَ كامِلاً/ التي نسيَتْ طرَفَ كُمِّها، قرْبَ كتفكَ الأيمنِ، يُعدِّلُ ياقتكَ من أجلِ اللقْطةِ؛/ كانَتْ أنا». حتى في عناوين النصوص - مشهد جماعي/ لقطة حديثة/ فكرة وثائقية/ دراما سيئة/ أكشن - نجد الحسَّ السينمائي ماثلاً. على جانب آخر يلقي هذا الحس بظلاله على هيئة تفريعات تقنية أخرى تتمثل في عمليات المباغتة التصويرية وخلخلة تراتبية التوقع؛ أو «شعرية التقويض» إن جاز التعبير: «ليْتَني وردَة تغرسُني في حواسِّ ترْبتِكَ قربَ نافذتكَ الشرقيةِ، تقطِفُني أيُّها الولدُ الأسمَرُ على مطْلَعِ أيلول/ لا تتْرُكْني أبَداً أموتُ وحيدةً؛ كمَا الآنْ». ومهما بدَتِ المفارقةُ مستوحاةً في بعض النصوص من السياق؛ إلا أنها لا تفقد مفاجأتها ودهشتها: «وجهُكَ وجْهي/ أحاولُ مطابقتَهُما/ أنْ يلتصِقَا مَعاً/ في عمليةٍ شاقَّةٍ؛ لاكتشَافِ مَلامِح أطفالي». بينما يكتملُ الحسُّ التقويضيُّ الصادمُ عندما تنتهي المجموعة بهذا النص الذي يعيدُ القارئَ للتفكير ومراجعةِ كلِّ ما مر: «النِّصفُ الآخَرُ الذي لمْ أكتبْهُ، هوَ النصفُ الأصدَقُ/ وَدَاعاً». تُظْهِرُ تجربةُ «نور البواردي» الملامح الأولية لنمط اشتغال الجيل الكتابي الذي ألمحنا لسمات مخزونه الثقافي ذي الصبغة الشمولية الكونية؛ حيث الوسيط التقني التواصلي هو مصدر الاطلاع والمثاقفة الأول والرئيسي؛ وذوبان ملامح هوية المكان والبيئة في مفهوميها التقليديين؛ بمعنى روغان النصوص، عن الجغرافيا التقليدية. فلا وجود سوى لبيئة كونية واحدة مشتركة الملامح والقسمات. الأمر الذي يمكن معه قراءة دلالات النصوص بوصفها دلالات مكانية مفتوحة على الأمكنة كافة. «بناية مبهمة/مصعد بأي مبنى/ وإن ابتعد المكان فهو لشارع، إلى جانب البيت والحجرة المنطوية على عشرات المكونات من قطع الأثاث» والأخيرة هي المتكررة غالباً: «أصبَحْتُ لا أفرِّقُ بينَ الكتابةِ، ومذاقَ قهوتي السَّادة/ كلُّ الأشياءِ الآنَ متشابهةٌ/ بيْتي جدرانٌ قلقلةٌ/ غرفَتي، بالتحديدِ هذا الشيءُ الذي لا أذْكُرُهُ/ كانتْ عبارةً عن سريرٍ وصوَرٍ وأقلامٍ كثيرة». ثمة مكان محبب وأليف يحضر باستمرار في الغالب من نصوص المجموعة، إنه الفضاء الكوني بعوالمه وشفراته وأيقوناته التعبيرية وأدواته التي صنعت قاموس مفرداتها اليومية لدى هذا الجيل: «تلاشَ الآنَ/ بنقْرةٍ واحدةٍ... تِكْ/ تلاشَ بحركَةٍ عبقريةٍ وبشكْلٍ لطيفْ/ اهْرُبْ سريعاً إلى سلَّةِ المهملات/ وحينَ تسألُ عنكَ روحي سأقولُ:/ لَمْ يكُنْ إلا بريداً إلكترونياً؛ بالخطأِ أضَفْتُهُ» هكذا نجد هذا القاموس حاضراً وبقوة بوصفه جزءاً من المحكيّ اليوميّ عبر سلاسل من الأيقونات والاختصارات والرموز التي أصبحت لغة مألوفة. فمن عناوين النصوص نجد هذه العناوين «بلاكْ لِسْتْ/ تحديث قائمة المسِنْ/ ديليت آيْكُنْ/ كائن فضولي/ محرك بحث/ آنْسَرْ مَشِين/ سي دي قديم/ سلة مهملات/ بريد إلكتروني»؛ مع حضور للتمثيل الصوتي البصري لنمط كتابة الكلمات المختصر في «اللغة الهجينة التي انولدت من محادثات الشات السريعة» «أمممممم/ ص د ف ة». «أشتااااااااااقُك إن سحَبَني أحدُهم إلى الأمام/ أعانقكَ كلما ركلوني للخلف/ أريدُ أن أكونَ دُرْجاً مفتاحُهُ مفقودٌ/ وأنتَ وحْدَكَ تحيااااااااااااااااااااااااا داخلي». * شاعر وناقد.