في حقبة عصر النهضة وجد الشعراء العرب أنفسهم إزاء تحدِّي التكيُّف والتفاعل مع معطيات الحياة الحديثة من حولهم، حتى أنّ اللغة نفسها وصمت بالعقم بفعل عدم قدرتها على استيعاب معطيات «الثورة الصناعية» مع بقاء الشعراء ينهلون من قاموس ينتمي إلى بيئة قديمة حيث الجِمال والخيول والسيوف والرماح، بينما مشهد العالم الجديد ترسمه سكك القطارات والسيارات وحروب البنادق والمدافع، وتحت هاجس الخروج بالقصيدة من سينوغرافيا العالم القديم، ظهرت محاولات يمكن نعتها بالساذجة للخروج من هذا المأزق ولمواكبة العصر، ومجاراة مبتكراته الصناعية، على حساب الاهتمام بالابتكارات الفنيِّة لجوهر الشعر نفسه، فأدخلت مفردات العصر الصناعي وقتها بقسرية لا تخلو من ابتسار، وجاء وجودها داخل القصيدة كوميديَّاً، وليس سوى ترصيع خارجي مفتعل. بينما أغفلت إلى حد بعيد التغيرات المعقَّدة في علاقة الشاعر بزمنه، والمسافة الحرجة بين الحياة واللغة، وصلة إيقاع اللغة بإيقاع الحياة، وبلاغة الحواس ببلاغة المعجم. لكن الثورة الصناعية أفضت إلى حروب أشدّ فتكاً ومضاءً من السيوف، وحياة أكثر تعقيداً مما كانت عليه في الصحراء، وأسفرت عن إنسان أكثر بلادة في متاهات العمران الفخم، لذا ثمة حلم إنساني بقي مشدوداً إلى الشعر الذي يتحدَّى شرور العالم ويعود إلى مركزية الإنسان في صورة «برومثيوس طليقاً»، واللافت أن هذا العنوان للشاعر الإنكليزي الرومانسي شيلي استعير عنواناً لأهم كتاب يؤرخ لتاريخ الثورة الصناعية وأثرها على المجتمع الأوروبي. وسعياً لمثل هذا الحلم يقوم الشاعر اللبناني محمَّد ناصر الدين في ديوانه «شمعتان للمنتظر» (دار النهضة العربية- بيروت) برحلة عكسية مسافراً عبر الزمن نحو عالم مفقود، فيصبح الماضي فردوساً والجحيم البدائي بناره القديمة وكوارثه أكثر رحمة من الحداثة المريبة للحاضر. ومحمَّد ناصر الدين من جيل ليسَ غريباً عن التكنولوجيا الحديثة أو ملتحقاً بها بوقت متأخر، فهو أحد أبنائها الذين ربما تفتَّحتْ عيونهم على الشاشات قبل الطبيعة، لكنَّهُ يعبر بوضوح عن اغترابه الروحي عنها، ومع أنه ابن هذا العصر إلا أنه لا يشعر بالانتماء إليه فهو يَدينُه، ربما أكثر مما يَدين له، حالماً بأجداد أبطال أسطوريين «يحرقونَ خطوطَ الهاتفِ والتيليغرام ويكسرونَ الحواسيب» لأنّه عصر الحروب والبلاستيك والزوال، والموت جوعاً، أو بالأوبئة والجائحات القديمة، وحين يكتب عن مجزرة «سبايكر» يستعيد صرخات ملائكة ريلكه، وفي غمرة مشاغله بالترجمة يتذكّر طوفان نوح وتيه موسى، ويحيل فيزيائيات هيراقليطس وأرخميدس إلى فيزيائيات معكوسة، وظواهر شعورية مقلوبة ومنتكسة تعبيراً عن رغبة داخلية في العود الأبدي، إلى بدء الأشياء وبكورتها الأولى وإن بدتْ مثل هذه العودة ضرباً من اليوتوبيا الممتنعة، والحلم الذي أوصل نيتشه إلى الجنون، ذلك أنَّ الأشياء من حولنا تبدو خالدة ونحن الفانون لهذا نتشبَّث بأحلامنا ونحاول التشبِّه بأبدية الأشياء التي تتسرَّب من حولنا منتظرين إيابها في مكان ما وزمان ما. لكنه انتظار معقّد «فالأمّ تنتظرُ حصان الْمُنتظَر» وبحسب المأثورات الشيعية المرتبطة غالباً بالأساطير الشعبية فإنَّ «المنقذ المنتظر» يتجوّل عبر الزمن راكباً على حصانه، لذلك ثمة أمَّهات يحرصن على وضع العَلَف عند الأبواب ليلاً ليأكل منها حصان المنقذ قبل أن يواصل مسيره في الليل الطويل، لكننا ينبغي أن نتذكر أن المنتظر معادل للانعتاق من تعقيدات المدنية الحديثة، فعندما يحين زمن وصوله تتعطل التكنولوجيا في مكان ظهوره وتعود الحياة إلى عصور ما قبل الصناعية. وتحت وطأة مثل هذا الانتظار المأزوم يستشعر الشاعر سطوة الفناء عبر مشكلة الانقراض النوعيّ للطبيعة والروح «الطيورُ والشعراءُ هُم أقربُ أنسباءِ الديناصوراتِ الباقيةِ في الوقتِ الحالي»، فناء تتحوَّل معه اللغة إلى استجواب وليس حرية ف «الكابتشا» أو «حروف التحقق» عتبة كلّ مكان، والفرد مطالب إزاءها دائماً أن يثبت إنه بشريٌّ وليس روبوتاً، والمسافة بين البشري والرجل الآلي متداخلة، تغيرت معها طبيعة القيم والعلاقات والأشياء، الحب والجنس، والأطفال والعائلة، والعمل، لهذا يصطحب الشاعر فراشة للهروب من المدينة، بعدما يتحول الإنسان فيها إلى متحف أو جثة في الشارع بينما لا (يعيش) منه هو سوى ذلك الجزء القادر على التعامل اليومي مع «الكابتشا» التي تبدو مفاتيح لأسرار لكنها في الواقع تنتهك آدمية الإنسان وخصوصيته وهويته لمصلحة تماثل يلغي الهوية والذات معاً. ومثلما جرى اختزال إنسان العصر الحديث في مجموعة من الأرقام بدل الرقُم الطينية التي حفظت الأساطير والملاحم القديمة، يختزلُ محمَّد ناصر بطريقة أخرى قصيدته في عبارات حادة وحاسمة وخاطفة، مختطفاً وهجاً من نار كبيرة تحيط بالعالم، والاختزال هنا اختزال مضاد، بمعنى أنه احتجاج من جنس المعضلة، فما دام العصر يختزلنا في الأرقام والأشياء فلنختزله بالكلمات وما بينها من فراغ ثري وعاصف، هكذا يصغي إلى تقطيعات للمشهد لا من سينما الأفلام ثلاثية الأبعاد، وإنما من سينما متخيلة وغير مرئية ومن فنان آخر ليس في الحسبان معبراً عن شغفه بالحكاية الشفاهية بديلاً للصورة: «أمي بارعة في المونتاج» وفي مشهد قريب من هذا تحضر عناصر الطبيعة المنسية، وعوالم الحياة القديمة الأصلية: الطين والنار والفراشات والأسماك والملائكة والخرافات والحكايات القديمة، لتجتمع ظاهرياً في صراع مع كل مظاهر التكنولوجيا الحديثة، والعصر الرقمي، وهكذا تبدو قصائد محمّد ناصر الدين وكأنها فصول من صراع ملحمي ما بين عصر الأساطير وعصر الأرقام والاختزالات داخل القصيدة، صراع يهرب فيه «ثور بيكاسو» من اللوحة، هروباً هو في جوهره فرارٌ من مصيره في حلبة مصارعة الثيران ومن الأضاحي. وعلى المنوال نفسه يستحضر صورة الشاعر شهيداً في صورة لوركا «في فَجْرِ غرناطةَ في حقلِ الليمونِ/ من قَتَلَ الشاعِر» وينحاز إلى عزلة ريلكه في «قلعة دوينو» وريفية بول فاليري الذي يحيل مقبرته البحرية إلى ريف شاسع يتحول فيه مع الموتى ويسرد ذكرياتهم بل يلعب معهم «الكوتشينة». هذا الشغف بعوالم الزمن الآخر، هو ما يدفع محمَّد غالباً إلى أن يعمد إلى الاقتباس والتناص والتضمين، وسواها من تقنيات هي أساساً من أصول البلاغة العربية القديمة، لكنَّه يضعها في سياق مناسب جمالياً مما يضفي عليها نكهة مختلفةً «زيتُ الأيقونةِ يكادُ يُضيء» ومما يلفت في التحشيد الواضح للأسماء والتضمينات والمرجعيات المعرفية في (قصائد قصيرة) إنه كناية عن مقدرة على هضم الثقافة وليس مجرد مثاقفة. فكما يخلق من المسافة الجناسية في المفردتين الفرنسيتين: «figue» و «fugue» يخلق أكثر من جناس فعَّال في العربية من قبيل: حجر وجحر وجرح، أو في هذه العبارة التي تستعين بالسياب لتتحول إلى إيجاز الانتظار للمنقذ بعد أن تحيله إلى مكان آخر من العين إلى السرداب: «عَيناكِ غَابتان/ لا عيناكِ غَيْبَتان» ويجمع مقطعاً من شعر بالفرنسية مع آخر بالعربية في تفاعل وحوار يتمِّم به قصيدته في معمار خلاسي إنساني من تفاصيل دقيقة تجمع اللغات وكأنها ينبوع بلاغي إنساني واحد يمجِّد الجمال ويدين القبح. على رغم أن «صواريخ» الآخر تبقى الأسرع وصولاً من «كتبه»: «أولئكَ الشُقْرُ بالعيونِ الزرقاءِ/ يحلو لنا أحياناً أنْ نطلبَ كُتبَهمْ عبرَ «Amazon» تصلُنَا صواريخُهُم قبلَها بِكَثير». هذه المسافة الهائلة أو بالأحرى الهوة بين الكتب والصواريخ، هي البرهة المستحيلة بين العولمة المتوحشة، والتواصل الحضاري، بين الإبداع الإنساني والمحو العدائي. مع أن قصيدة محمَّد تبدو في شكلها الظاهر منخرطةً في ما يشيع الآن في مشهد الشعر الجديد من كتابة الجملة القصيرة، لكن ما يميزها أنها لا تسعى إلى جعل تلك الجملة القصيرة قولاً مأثوراً، أو عبارة صادمة، تتذرع بالمفارقة وحدها، إنما ينجح في تحويلها إلى «قصيدة قصيرة» تامة المبنى والمعنى لذلك فإنها «تصاميم» متقنة وليست عبارات سائبة بلا حيز خاص بها.