عندما خرج شباب اليمن إلى الشوارع والميادين في 11 شباط (فبراير) الماضي، للاحتفال بنجاح الثورة المصرية، واجهتهم قوات الأمن التي كانت على أهبة الاستعداد، ومعها عناصر مدنية تنتمي الى «حزب المؤتمر الشعبي العام» (الحاكم)، بالعصي والهراوات وأعقاب البنادق التي انهالت على أجساد كثيرين من الشباب بكل قسوة. يومها تحول الاحتفال بنجاح الشباب المصري في إسقاط الرئيس حسني مبارك، مناسبة لإشعال شرارة ثورة عربية جديدة، وهذه المرة في اليمن، الذي لا تخلو منازله في الأرياف والمدن من الأسلحة بكل أنواعها وأحجامها، وأقل ما يمكن أن يكون متوافراً من الأسلحة في المنازل اليمنية هو (المسدس والكلاشنيكوف)، إلى جانب السلاح الأبيض طبعاً والمتمثل في «الجنبية». وعلى رغم هذه المعطيات وسهولة الحصول على الأسلحة لتوافرها في الأسواق لمن لا يمتلكها، وتمسك اليمنيين بانتماءاتهم القبلية، إلا أن شباب اليمن ورجاله الذين قرروا السير على درب الثورة ضد نظام الحكم، خرجوا إلى ساحات وميادين التغيير والحرية، بعد أن رفعوا أصابعهم عن الزناد ووضعوا أسلحتهم جانباً. ولكن، هل لا تزال الثورة الشبابية الشعبية في اليمن سلمية بعد كل الاشتباكات العنيفة التي شهدتها صنعاء بين القوات الحكومية الموالية للرئيس علي عبدالله صالح، وأتباع زعيم قبيلة حاشد الشيخ صادق الأحمر لأكثر من أسبوعين، وما يحدث في مدينة تعز من تدخل لرجال القبائل في أعقاب المجزرة الدموية التي ارتكبتها قوات من الأمن والحرس الجمهوري أخيراً عند اجتياحها ساحة الحرية التي يعتصم فيها الشباب منذ أربعة أشهر مضت، وإحراقها خيم المعتصمين، ثم الهجوم الذي تعرض له مسجد النهدين داخل دار الرئاسة، لحظة وجود الرئيس اليمني وكبار مسؤولي الدولة فيه لأداء صلاة الجمعة، ما أدى إلى سقوط عدد من القتلى، وإصابة غالبية من كانوا في المسجد وفي مقدمهم الرئيس صالح، بإصابات بعضها بالغة الخطورة، ثم هل ستستمر سلمية الثورة حتى يتحقق هدف إسقاط النظام ورحيل الرئيس عن الحكم؟ يؤكد شباب الثورة المعتصمون في ميادين وساحات التغيير والحرية في عموم المحافظات اليمنية، أن ثورتهم بدأت سلمية وستبقى سلمية حتى يتحقق لها النصر، وهو ما شددت عليه مواقفهم المعلنة من التطورات الجارية في اليمن، وقال عدد من التحالفات الموجودة في ساحة التغيير بصنعاء، وفي مقدمها التحالف المدني للثورة الشبابية، وكتلة الشباب والتغيير، وتكتل شباب الأمة، ومجلس الشباب الديموقراطي المستقل، وائتلاف عمال اليمن الأحرار في بيان مشترك في شأن المواجهات التي وقعت في صنعاء إن سلمية الثورة مبدأ وليست تكتيكاً وأنها تدين «محاولة النظام الفاسد اليائسة جر البلاد إلى حرب أهلية وإدخال الآلة العسكرية إلى المدن واستخدام القوات المسلحة والأمن خارج مهماتها الأساسية ومن أجل خدمة أشخاص ضد مصلحة الشعب اليمني وأمنه». وناشد البيان الصادر باسم شباب الثورة المعتصمين في ساحات وميادين الحرية والتغيير، «إخوانهم من أفراد وضباط القوات المسلحة والأمن عدم الاستجابة لأية أوامر تدعوهم إلى الاقتتال ومواجهة الشعب وثورته السلمية»، كما دعت اللجنة التنظيمية في ساحة التغيير في صنعاء الشعب إلى رفض مساعي الرئيس صالح لجر البلاد إلى حرب أهلية ورفض كل الممارسات التي تقوم بها قوات الأمن والتي من شأنها زعزعة الأمن والاستقرار. وقال الناشط في ساحة التغيير عبدالسلام عبدالله: «نؤكد للمجتمع الدولي أن الثورة في اليمن سلمية ولا تزال ولا يمكن جر شباب الثورة إلى العنف»، وأكد ل«الحياة» أن المواجهات التي حدثت في صنعاء بين القوات الموالية للرئيس صالح وأتباع الشيخ صادق الأحمر، «ليست لها علاقة بالثورة الشبابية، وإن كان أبناء الأحمر أعلنوا تأييدهم للثورة، لأن أسباب المواجهات المسلحة بين الطرفين شخصية، وكان الرئيس يهدف من خلالها إلى جرنا إلى مربع العنف، ولكنه فشل في مسعاه». الموقف نفسه أكده الشيخ صادق الأحمر في أكثر من مناسبة، وقال ان الهجوم الذي شنته القوات الموالية للرئيس على منزله، وما تلا ذلك من مواجهات ليست لها علاقة بالثورة السلمية، في حين اعتبرتها أحزاب المعارضة في «تكتل اللقاء المشترك» تطوراً خطيراً لمسار الأزمة في البلاد، وقال في بيان صادر عن اجتماع استثنائي لمجلسه الأعلى أن نظام الرئيس صالح يصر على الزج بالبلاد في أتون حرب أهلية، في محاولات بائسة وسعي مستميت لحرف مسار الثورة عن خطها ونهجها السلمي، وجدد المجلس تأكيده لسلمية الثورة ورفض العنف، محملاً «النظام المسؤولية الكاملة عن ممارسات العنف والاقتتال، وافتعال المعارك والحروب بين اليمنيين، ودعت أحزاب المعارضة الشعب بكل فئاته وشرائحه وقواه السياسية والاجتماعية للالتفاف حول ثورتهم السلمية، وقطع الطريق على كل محاولات الزج باليمنيين في الاقتتال، كما طالب المجتمع الدولي دعم الشعب اليمني وحقه في التغيير وبناء دولته المدنية». وفي مدينة تعز قالت مصادر محلية ل «الحياة» أن القبائل المسلحة الموالية للثورة الشبابية السلمية - أو ما بات يطلق عليها صفة قوات «صقور الحالمة» وهو الاسم الرديف لتعز - تدخلت لحماية المحتجين والحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة، بعد أن تعرضت بعض هذه الممتلكات للعبث وأعمال الفوضى والنهب والتدمير من قبل مجاميع مسلحة تابعة لحزب المؤتمر الشعبي العام (الحاكم)، بهدف إثارة الفوضى في المدينة والخوف في نفوس السكان، وبالتالي القضاء على الاحتجاجات الشبابية الشعبية في المدينة، وأكدت المصادر أن تدخل رجال القبائل الداعمين للثورة وما حدث من مواجهات بينهم وقوات الأمن والحرس الجمهوري، لم يتم إلا بعد إفراط قوات الرئيس في التنكيل بالشباب المعتصمين وقتل مئات الشباب المشاركين في الاحتجاجات السلمية. وشددت المصادر على أن «الثورة سلمية وستبقى كذلك، ومهمة رجال القبائل التي تكمن في الدفاع عن النفس وحماية المتظاهرين السلميين، الذين قتل منهم في تعز وحدها قرابة 200 شخص وجرح مئات بالرصاص المباشر، إضافة إلى حماية الأحياء السكنية والمقار الحكومية التي طاولها العبث المنظم، وهذه المهمة النبيلة لا تتناقض مع سلمية الثورة، ولا تنقلها إلى مربع العنف والثورة المسلحة». المحامي غازي السامعي دعا في حديث إلى «الحياة» عبر الهاتف من مدينة تعز، إلى التفريق بين من يحمل السلاح ومن يحتج سلمياً، وقال: «الشباب بدأوا ثورتهم بشكل سلمي ويتمسكون بسلمية الثورة على رغم كل ما تعرضوا له من البطش والقتل طيلة أربعة أشهر مضت، ولم يفكروا في اللجوء للكفاح المسلح، ولم يحدث أن حمل السلاح أو لجأ إلى العنف، أي من الشباب المعتصمين والمطالبين بإسقاط النظام ورحيل الرئيس صالح عن الحكم، وبعد اقتحام ساحة الحرية، تداعى مشايخ تعز وتعهدوا الدفاع عن المعتصمين وحماية المدينة، ولهذا حمل أتباع المشايخ السلاح ومعهم الضباط والجنود المنشقون عن الدولة والمؤيدون للثورة، وهؤلاء هم الذين يقومون بمهمات الدفاع عن المعتصمين وحماية المدينة من العبث». وأكد السامعي أن ما يحدث في مدينة تعز من مواجهات بين رجال القبائل والقوات الموالية للرئيس صالح، لا يتناقض مع سلمية الثورة لأن من يحملون السلاح هم مناصرون للثورة وليسوا ثواراً حقيقيين. ورأى «أن الدفاع عن النفس والمال والعرض واجب شرعاً، وليس فقط أمراً مشروعاً، والدفاع هنا يتم بمختلف الوسائل المتاحة، وبما يتناسب مع الفعل العدواني ويكفل ردعه». أما الناشط الحقوقي محمد الأحمدي فيقول إن الثورة في اليمن أصبحت ذات شقين: «سلمي ويتمثل في الشباب المرابطين في ساحات الاعتصام، ومعهم قوات الجيش التي أعلنت تأييدها للثورة السلمية وعلى رأسها اللواء علي محسن الأحمر قائد الفرقة المدرعة الأولى والتي لا تزال مهمتها حتى الآن حماية ساحة الاعتصام بصنعاء، والشق الثاني للثورة هو الانتفاضة المسلحة، وقد انطلقت شرارتها الأولى بين القوات الموالية لصالح وأتباع أنجال الشيخ الأحمر زعماء قبيلة حاشد، وكادت تتسع وتأخذ أبعاداً خطيرة وكارثية، لولا أن هجوم قصر الرئاسة قطع دابرها»، ويرى الأحمدي في حديث الى «الحياة» أن «هذه الحرب وإن غلب عليها طابع الثأر الشخصي بين الرئيس صالح وأولاد الشيخ الأحمر، إلا أنه لا يمكن إنكار صلتها من قريب أو بعيد بالاحتجاجات المطالبة برحيل الرئيس عن الحكم». ويعتقد الأحمدي أن الاشتباكات المتقطعة التي تدور في مدينة تعز بين القوات الموالية للرئيس وبين رجال القبائل الذين تعهدوا حماية المعتصمين ربما تكون أكثر وضوحاً وقرباً من الانتفاضة المسلحة في صورتها من الأحداث التي هزت حي الحصبة في العاصمة صنعاء، ويقول: «الغريب في الأمر أن نظام صالح الذي هدد مراراً وتكراراً بحرب أهلية، لم يكن يتوقع على ما يبدو أن ألسنتها ستلسعه، بصرف النظر عن الغموض الذي لا يزال يكتنف الهجوم الذي استهدفه في عقر داره، والحقيقة أن الرئيس صالح وقد اخفق في جر الشباب المعتصمين في الساحات إلى مربع العنف، على رغم القمع الشديد الذي مارسه ضدهم، لم يكن يتوقع على ما يبدو أنه لن يكون بمنأى عن نيران كثيرة ومختلفة لم تأت من الساحات حتى يتعامل مع المعتصمين فيها كخارجين عن النظام والقانون وإنما من جهات أخرى، لا نعرف من هي». ويرى الباحث والسياسي عبدالله المتوكل أن ثورات الربيع العربي اليوم واليمن في مقدمها، لا تحتاج للسلاح بقدر حاجتها للتأييد الجمعي، ويقول: «الشعوب العربية حققت لذاتها مكسباً أعتبره أغلى وأهم ما يمكن أن يسعى إليه أكثر النخب والقيادات الإصلاحية إخلاصاً لشعوبها، ولا أقول إن الفضل في ذلك يعود إلى ما ابتليت به من أنظمة حكم اتصفت بكل أنواع وأشكال السوء والجهالة، ولكني أجزم بأنه لولا هذه الأنظمة وطول بقائها لما وصلت هذه الشعوب إلى ما وصلت إليه من وعي وإدراك وقناعة وفي شكل «جماعي» تبددت أمامه أسباب الاختلاف الطبيعية في التعامل مع الشأن السياسي، لنجد الشعوب تهب كتلة واحدة لتحقيق هدف واحد هو الخلاص من الحمل الذي نكبت بثقله عقوداً من الزمن». ويقول المتوكل إن التاريخ يحفظ في ذاكرته العديد من الثورات التي حدثت على امتداد الزمان والمكان، ومن المعلوم أن معظم تلك الثورات اضطرت النخب والقيادات السياسية التي قادت أو وجهت تلك الثورات إلى عبور الطريق العنفي أياً كان شكله في سبيل تحقيق النجاح للأهداف النبيلة للثورة»، ويعتقد المتوكل أن هذا العبور الاضطراري لطريق العنف «يرجع لسبب مهم إن لم يكن وحيداً، وهو أن هذه القيادات إما أنها لم تمتلك المنطق الكافي لخلق إجماع شعبي بسلامة وضرورة وإمكان نجاح الثورة، أو أن تلك الشعوب كانت تعاني من القصور الفكري والمعرفي، ما أدى إلى الانقسام، ليكون اللجوء لاستخدام القوة ضرورة لا مفر منها لنجاح الثورة وتحقيق أهدافها، وفي حال الشعوب العربية اليوم فإن الإجماع هو سيد الموقف باعتباره أهم مكتسبات حقبة الأنظمة الفاسدة».