بعد مراجعة واسعة لسياسة الاتحاد الاوروبي تجاه دول الجوار العربي، اعلنت كل من كاثرين آشتون، المسؤولة عن السياسة الخارجية للاتحاد، وستيفان فيول، المسؤول عن توسيعه، ان من الآن وصاعداً سيربط الاتحاد المساعدات التي يقدمها الى الدول العربية بالاصلاحات الديموقراطية التي تنفذها هذه الدول. وقد اكتسب هذا الاعلان اهمية خاصة ليس فقط لأنه يتعلق بسياسة الاتحاد الاوروبي تجاه الديموقراطية في المنطقة العربية فحسب، ولكن لأن المسؤولين الاوروبيين اعلنوا ايضاً ان الاتحاد خصص 8.5 بليون دولار كقروض ميسّرة لتقديمها خلال عامي 2011-2013 لشركاء الاتحاد في جنوب وشرق المتوسط، اي الى عدد من الدول العربية التي تقف اليوم على مشارف تحولات سياسية مهمة. يأمل المسؤولون في الاتحاد ان تؤدي هذه السياسة الى تعزيز الاتجاه الديموقراطي في المنطقة العربية. فدول الربيع العربي تكبدت خسائر اقتصادية هامة حيث ان الانتقال الى النظام الديموقرطي لم يكن سلمياً ومنتظماً، بل رافقته صدامات تركت آثارها على البنية الاقتصادية في مصر وتونس على الاقل. وفي خضم العملية الانتقالية، من المرجح ان يتغاضى عشرات الالوف من المواطنين عن المطالب الاجتماعية والمعيشية الملحّة. ولكن كما يحدث في كل الثورات والانتفاضات، فإن الثوار والمنتفضين سيعودون الى هذه المطالب بعد مرور فترة شهر عسل بينهم من جهة، وبين النخبة الجديدة الحاكمة، من جهة اخرى. اذا لم يتمكن الحكام العرب الجدد من تلبية هذه الطلبات، فإن الذين نادوا بالنظام الديموقراطي قد يعيدون النظر في موقفهم، وقد يمنحون ثقتهم الى «نابوليون» عربي يوحي بأنه قادر على تحقيق المطالب الاجتماعية وعبر احالة النظام الديموقراطي الى الاستيداع، وتسريح مؤسساته. المساعدات الاقتصادية الاوروبية وغير الاوروبية المقدمة الى دول «اليقظة العربية» جديرة بأن تساهم في درء مثل هذا الاحتمال المتشائم. ولكن هل تلبي، الخطوة التي اعلن عنها كل من آشتون وفيول، حقاً، هذه الحاجة؟ هل تمثل اتجاهاً جديداً في سياسة الاتحاد الاوروبي تجاه دول الجوار العربي؟ والى اي مدى يمكن هذه الخطوة ان تساعد، بالفعل، الدول العربية سواء المغاربية او المشرقية، على دفع كلفة الانتقال الى الديموقراطية؟ كيف كانت ردود الفعل العربية على هذه المبادرة وعلى المبادرات المماثلة التي قام بها الاتحاد تجاه المنطقة؟ لقد غلب على ردود الفعل هذه طابع الترحيب المهذب ولكنه انطوى على تساؤلات وملاحظات مهمة حول المبادرة ومغزاها ومدلولاتها. تناولت هذه الملاحظات جانبين اثارتهما المبادرة الاوروبية: الجانب الاول، تركز على المساعدات المعلنة نفسها. فالمبلغ المرصود لمجموع الدول العربية وعلى مدى سنتين، بدا للكثيرين رمزي الطابع بالمقارنة مع الحاجات الملحّة التي تواجهها هذه الدول وبخاصة دول «اليقظة العربية» مثل مصر وتونس. اما تقديم هذه المساعدات على شكل قروض وليس معونات، فقد كان موضع نقد ومثيراً للمخاوف. فمثل هذه القروض تذكر البعض بما حدث لمصر ابان حكم الخديوي اسماعيل خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. عندها لجأت السلطات المصرية الى الاقتراض من المصارف الاوروبية، حتى اذا عجزت عن تسديد هذه القروض انفتح الطريق امام وقوع مصر تحت الوصاية الاوروبية ومن ثم في قبضة الاحتلال البريطاني. هذه المخاوف لم تكن بعيدة من مسؤولي الاتحاد الاوروبي الذين اعتبروا ان الاعانات لا تكفي وحدها للنهوض بالاوضاع الاقتصادية والاجتماعية في دول الجوار، وأن من الافضل مساعدة هذه الدول على تحقيق هذه الغاية عبر تنمية القطاعات الانتاجية فيها. استطراداً اتجه الاتحاد في السابق الى توقيع اتفاقات شراكة مع بعض الدول العربية مثل مصر وتونس. وعلى رغم الآمال المعلقة عليها، لم تحقق هذه الاتفاقات النتائج المتوخاة منها كما كان الامر بالنسبة الى دول شرق آسيا. فهذه الدول تمكنت من تنمية صادراتها الى الاسواق الاوروبية والاميركية بعد ان عززت التجارة في ما بينها، اي بين الدول الآسيوية نفسها، وفي اطار معاهدات واتفاقات جماعية شملت الدول الاعضاء في «رابطة جنوب شرقي آسيا» (آسيان) كما تبين دراسة بعنوان «التجارة الاقليمية مفتاح لازدهار صادرات آسيا» اعدّها كل من بول غروينوالد وماساهيرو هوري من صندوق النقد الدولي. الجانب الثاني تناول الاساس الذي ارتكزت اليه السياسة الاوروبية تجاه الدول العربية وتجاه النظام الاقليمي العربي. هذه السياسة تختلف اختلافاً كبيراً عن الموقف الذي يتخذه الاتحاد الاوروبي تجاه تكتلات اخرى في العالم. فالاتحاد الاوروبي، ومن قبله السوق الاوروبية المشتركة، اتبعا سياسة تقديم عون ملموس الى بعض المشاريع الاقليمية بقصد النهوض بها وتطويرها، كما فعلا مع سوق اميركا الجنوبية المشتركة (ميركوسور). ان الاتحاد يتعاون مع كل دولة من دول «ميركوسور» على حدة، ولكنه فضلاً عن ذلك يدعم «ميركوسور» ككيان اقليمي قائم بذاته ويساعدها في مجال بناء مؤسساتها الاقليمية وقدراتها على الاضطلاع باتفاقات التعاون بينها وبين الاتحاد الاوروبي، ويعزز قدرة منظمات المجتمع المدني في دول «ميركوسور» على الاسهام على تحقيق الاندماج الاقليمي. يقدم الاتحاد الاوروبي مثل هذا الدعم الى «ميركوسور» لأنه يعتبر ان هناك علاقات تاريخية بين اميركا اللاتينية وأوروبا، وأن مثل هذه العلاقة تضع على عاتق الدول الاوروبية وبخاصة تلك ذات الصلات القديمة مع ذلك الجزء من العالم مسؤوليات تاريخية لتقديم شتى انواع الدعم الى شعوب اميركا الجنوبية. ولكن الاتحاد، حتى في غياب مثل هذه العلاقات، لا يتردد في اقامة صلات تعاون على اساس مبدأ التعامل بين اقليم وإقليم region to region في مناطق شتى من العالم كما هو الامر مع «آسيان»، فيعقد مع هذه المنظمة ومع دول شرق آسيا قمماً دورية يتم خلالها الاتفاق على مشاريع لتنمية التعاون بين الاتحاد والمنظمات الاقليمية الآسيوية. في هذه العلاقات يحرص الاتحاد على التعبير عن احترامه الكامل لخصوصيات هذه المنظمات وعلى احترام هويتها وإرادتها. فعلى رغم تحفظ الاتحاد على نظام الحكم العسكري والاوتوقراطي في كمبوديا، الا انه (اي الاتحاد) لم يعتبر ذلك سبباً لمقاطعة «آسيان» ولعدم التعامل معها ككيان ذي شخصية اعتبارية ودولية. خلافاً لهذه السياسات، طبق الاتحاد الاوروبي سياسة تجاهل منهجي صارم للنظام الاقليمي العربي ولمؤسساته ومشاريعه، وأصر على بناء علاقات مع الدول العربية إما من خلال اقنية التعاون الثنائي اي مع كل دولة عربية على حدة او عبر تكتلات اقليمية فرعية (الاتحاد المغاربي، مجلس التعاون الخليجي) او عبر تكتلات بديلة عن النظام الاقليمي العربي (اطار برشلونة، الاتحاد المتوسطي، الاتحاد من اجل المتوسط، الشرق الاوسط الكبير، منطقة مينا). وقد يتنازل المسؤولون الاوروبيون ويقبلون بالجلوس مع المسؤولين العرب في اطار مشترك يضم مؤسسات اقليمية من جهتين، كما حدث في مؤتمر وزراء الخارجية الاوروبيين والعرب الذي عقد في مالطا عام 2008، إلا ان الوزراء الاوروبيين حرصوا على تأكيد ان هذا المؤتمر لن يكون بديلاً من المنظمات الاقليمية التي استحدثوها لكي تضم دول جنوب المتوسط وشرقه، اي كدول من دون هوية مشتركة او مصالح متقاربة او صلات جامعة او احلام مستقبلية مشروعة. السياسة الجديدة التي اعلن عنها الاتحاد هي استمرار للسياسة القديمة من حيث نظرتها السلبية تجاه العمل العربي المشترك ومؤسساته. انها استمرار لنهج مقاطعة العرب كجماعة بشرية وكمنظومة اقليمية هي الاقدم، بعد منظمة الدول الاميركية، في التاريخ الدولي المعاصر. هذا النهج، اذا استمر على حاله، فسوف لن يحقق اي نفع للديموقراطية في البلاد العربية وسيرتد على فكرة التعاون العربي - الاوروبي بالاضرار. * كاتب لبناني