بعد ثورات التحرير والتغيير تأتي ثورات التوقعات. النمط الأول من الثورات قد يكون أرحم من النمط الثاني منها. إذ إن عندما يضحي المواطنون بكل شيء من أجل استبدال هذه الأنظمة الفاشلة، فإنهم يتوقعون أن تلبّي الأنظمة البديلة حاجاتهم وآمانيهم. إذا لم يستجب الحكام الجدد إلى هذه المطالب، فإن الذين مهدوا الطريق لبلوغهم السلطة سيخرجون إلى الشارع مراراً حتى يصل إلى السلطة من يحققها، أو من يرتد على الثورة والثوار، فيتذرع بالحاجة إلى الأمن والاستقرار، لكي يقضي على ثورة التوقعات بقوة الحديد والنار ويعيد التاريخ إلى الوراء. الحق أن هذا المسار الأخير اقرب إلى التحقيق عندما تتأسس حكومات ديموقراطية على أنقاض الحكومات الاستبدادية. إن التاريخ مليء بحكايات الجمهوريات الديموقراطية التي سقطت فريسة ثورة التوقعات. وهنا عقدة ستواجه النخب الديموقراطية العربية التي تصل إلى الحكم في المرحلة الجديدة التي ندخلها. إن تدبير فاتورة التغيير في مصر وتونس لن يكون أمراً سهلاً. من يأمل في أن تأتي المساعدات من دول الغرب عليه أن يذكر أن هذه الدول هي نفسها تواجه الأزمات والاضطرابات الاجتماعية والسياسية. لقد بدأت هذه الأزمات في دول الاتحاد الأوروبي قبل أن تنتقل إلى المنطقة العربية، وعندما تفاقمت بحيث باتت تهدد الاستقرار في دول الاتحاد الأوروبي المتوسطية، قرر الاتحاد تقديم دعم مالي يساعدها. ولكن عندما انتقلت الاضطرابات إلى جنوب المتوسط وشرقه، فإن الاتحاد لم يرمِ بطوق النجاة إلى حلفاء الأمس. بالعكس أدار ظهره لهم وجعل يلقي الدروس الأخلاقية عليهم بعد أن كان قد شجعهم على السير على طريق أوصلهم إلى الحضيض. وفيما عدا ذلك فإن العالم الأطلسي ملزم بتدبر أمر أعضائه، أي الدول التي تشكل جزءاً من الاتحاد ومن المنظومة الأطلسية والتي تملك الحق في تقرير مصيرهما، أما دول الجوار فمن واجبها أن تواجه قدرها بنفسها. بينما كانت سفينة حسني مبارك تغرق في مصر، وجّه وزير الخارجية المصري احمد أبو الغيط نداءات كثيرة إلى المسؤولين الأوروبيين والأميركيين يطالبهم فيها بتوفير الدعم العاجل للاقتصاد المصري، أو على الأقل بالإعلان عن استعدادهم لتقديم مثل هذا الدعم. إلا أن الدول التي وجّهت إليها هذه النداءات أمسكت عن التجاوب معها وساهمت في التعجيل في سقوط نظام مبارك، فهل تفتح شرايين الدعم الاقتصادي الاستثنائي والعاجل أمام النظام الجديد في مصر وتونس؟ هل تقدم دول الغرب التي رحبت بالثورات الديموقراطية في المنطقة العربية دعماً حقيقياً إلى حكومتي مصر وتونس؟ هل تساعد دول الغرب النخب السياسية الجديدة في مصر وتونس على مواجهة ثورة التوقعات؟ هل يساعد الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة الحكومتين المصرية والتونسية على الانتقال إلى مرحلة توطيد الديموقراطية بعد اجتياز ثورة التغيير والحرية؟ من الطبيعي أن تقف هذه الدول موقف الحذر والترقب قبل أن تبلور سياساتها وقبل أن تقدم أية مساعدة ذات شأن إلى الحكومات الجديدة في المنطقة العربية. سترقب الحكومات الأطلسية بدقة شديدة السياسات التي تتبعها حكومتا مصر وتونس تجاه الأوضاع الإقليمية وبخاصة تجاه العلاقة مع إسرائيل. سينصب الكثير من الاهتمام على السياسة التي ستتبعها مصر تجاه الدول العربية. إذا سعت النخبة المصرية الحاكمة الجديدة إلى إحياء دورها المحوري وتنميته في السياسة العربية مع سعي موازٍ إلى تنمية الرابطة العربية بين دول المنطقة، فإن من الأرجح أن يصطدم هذا المسعى بتحفظ غربي وبالامتناع عن تقديم العون الاقتصادي إلى مصر. وإذا أعادت النخبة المصرية الحاكمة الجديدة ونظيرتها التونسية النظر في مستوى العلاقات التي نسجها نظام حسني مبارك مع إسرائيل، فإن من المتوقع أن تؤثر هذه الخطوة تأثيراً مباشراً في الدعم الغربي للنظام المصري الجديد. وإذا اعتبرنا أن الخطوة التي اتخذتها السلطات القضائية المصرية بتجميد صادرات مصر من الغاز إلى إسرائيل مؤشر على موقف النخبة المصرية الجديدة تجاه العلاقة مع إسرائيل، فإن من المتوقع أن تتخذ إسرائيل من هذا الموقف المحق وسيلة لتحريض الدول الأطلسية ضد مصر. في مطلق الأحوال، وسواء كان رد الحكومات الغربية على متغيرات مصر وتونس سلبياً أم لا، فإن من مصلحة البلدين تغيير السياسة التي اعتمدها كل من مبارك وبن علي على الصعيدين الدولي والإقليمي. اتجه الرئيسان إلى دمج بلديهما ب «الاقتصاد الدولي» وب «العولمة»، والحقيقة انهما اتجها إلى دمج البلدين بالغرب. هذه السياسة تختلف اختلافاً مهماً عن تنمية التعاون مع الغرب. الخيار الأول فرض على البلدين أن يكيّفا اقتصاديهما بصورة متزايدة مع حاجات الأسواق الأميركية والأوروبية. مساوئ هذه السياسة نكتشفها من خلال متابعة العلاقة بين دول أخرى سبقت الدول العربية في مجال التنمية وفي مجال «الاندماج بالاقتصاد العالمي». تقول دراسة أعدها برنامج الأممالمتحدة الإنمائي عام 2010 بعنوان «الأزمة الاقتصادية ومستقبل التعاون الإقليمي في آسيا» أن اكثر الدول الآسيوية التي ركزت على الاقتصاد التصديري اعتمدت بصورة حصرية تقريباً على صادراتها إلى الولاياتالمتحدة وأوروبا. ولقد حققت هذه السياسة بعض الفوائد عندما كان الازدهار مسيطراً في دول الغرب، ولكن عندما ضربت الأزمة الاقتصادية هذه الدول، امتدت تداعياتها لكي تضرب بعنف دول آسيا التي حققت «الاندماج في الاقتصاد العالمي، أي الغربي». هكذا انخفضت صادرات اليابان في نهاية عام 2008 إلى الغرب بمعدل 50 في المئة، وانخفضت صادرات إندونيسيا بمعدل 36 في المئة وتراجعت صادرات تايلاند بمعدل 26.5 في المئة بالمقارنة مع صادراتها قبل استفحال الأزمة الاقتصادية في الغرب. تأسيساً على ذلك، وحرصاً على مستقبل التنمية المستدامة وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية في المجتمعات النامية، تنصح هذه الدراسات ودراسات أخرى دول الجنوب باعتماد خيار التعاون الإقليمي كبديل من الاعتماد على ربط اقتصادها بدول الغرب. في هذا السياق يأتي بناء مجمعات صناعية إقليمية، والتعاون في المجالات التكنولوجية والتجارة والاستثمار الإقليمي، والتربية والتعليم، ومحاربة الفقر ومكافحة الفساد كخيارات أولية. وتقدم هذه الدراسات أمثلة كثيرة على الإنجازات التي حققتها دول اعتمدت هذا الطريق. دول أوروبا النامية التي التحقت بالاتحاد الأوروبي تمكنت من تحسين صادراتها على نحو ملموس بين عامي 1988 و1996 نتيجة التعاون التقني مع بقية دول الاتحاد. البرازيل تمكنت من تنمية استثماراتها في دول أميركا اللاتينية خلال الفترة نفسها تقريباً بعد أن تطور التعاون الإقليمي على صعيد الاستثمار. إن مؤسسات العمل العربي المشترك هي المجال الصحيح لبحث موضوع تنمية التعاون الإقليمي، وللتباحث في كيفية مساعدة مصر وتونس على التعامل بنجاح مع ثورة التوقعات. لقد سارع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى المندوبين في آخر اجتماع له إلى تأكيد أن الدول العربية مستعدة لتقديم دعم إلى البلدين. هذه التأكيدات الأولية لها فائدة ولكن محدودة أخذاً بالاعتبار دور المندوبين المتواضع في صوغ سياسة بلادهم. هذه التأكيدات ستكون أبعد أثراً إذا تكررت على ألسنة وزراء الخارجية العرب الذين سيجتمعون في 3 آذار (مارس) المقبل قبل مؤتمر القمة العربي الذي سيعقد في بغداد في نهاية الشهر. ما نعتقد أن المقاربة الأصح لهذا الموضوع لا تركز على مسألة المساعدات العاجلة والملحة لمصر وتونس، إذ إن البلدين قادران على تجاوز أزمتهما الراهنة. المقاربة السليمة لمسألة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة هي تلك التي تركز على بحث كيفية النهوض بالمنظومة الإقليمية العربية جملة وتفصيلاً. في هذا السياق فإن من حق حكومتي مصر وتونس تجنب الوقوع في وهم الاعتقاد بأن مقررات مؤسسات العمل العربي المشترك تأخذ طريقها عادة إلى التنفيذ. إن إحالة مثل هذه القرارات إلى الحفظ هي تقليد راسخ في عمل هذه المؤسسات، وهو نهج مستفحل ساهم الرئيسان المصري والتونسي السابقان في توطيده واستفحاله. الأمل في أن تنفخ ثورتا مصر وتونس روحاً جديدة في مؤسسات العمل العربي المشترك تقوم على جدية الالتزام بالقرارات وعلى الترابط بين التقرير والتنفيذ. * كاتب لبناني