اطلق عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية نقاشاً واسعاً خلال مؤتمر القمة العربية حول اقتراحه بصدد اقامة رابطة دول الجوار العربي. وتعددت ردود الفعل حول هذا المشروع. و رحَّب به زعماء عرب واتراك وايرانيون. مقابل ذلك، اعربت اطراف عربية عن معارضتها له. ومن بين الذين ابدوا تحفظهم القوي على المشروع، برز موقف القاهرة، اذ اعلن حسام زكي المتحدث باسم الخارجية المصرية معارضة بلاده للمشروع. وبرَّر زكي هذا الموقف بأن «الفكرة في حد ذاتها تحتاج الى بلورة والى ان تفهم بالتفاصيل». وبدت ردة الفعل هذه هي نفسها في حاجة الى بلورة. فالمشاريع لا ترفض عادة في الأعراف الديبلوماسية «لأنها ليست واضحة». واذا كان المقترح يشوبه فعلا غموض، فإن من المألوف ومن المنطقي ان يطلب الى صاحبه بلورته في مشروع واضح قابل للنقاش. فإذا استجاب صاحب المقترح لهذا الطلب، امكن عندئذ النظر فيه والحكم عليه من خلال مطابقته لمصالح الدول المعنية وتحقيقه الاهداف المتوخاة لهذه الدول في علاقاتها مع مجموعة اخرى من الدول. اما اذا اتضح ان المشروع لا يحقق مثل هذه الاهداف، كان من المستطاع رده لسبب مفهوم ومنطقي. ويبدو هذا المنهج هو الأسلم في تحديد الموقف تجاه «رابطة دول الجوار»، حتى ولو كانت ردة الفعل الاولية تجاهه محكومة، الى حد بعيد، وكما يتردد، بالتوتر القائم بين القاهرةوطهران، او في الحقيقة بين عدد من الدول العربية من جهة، وايران من جهة اخرى. فليس من الغريب ان يقال ان إقامة الروابط الاقليمية بين بلدين او اكثر تحتاج، بادئ الامر، الى توفير اجواء ملائمة في ما بين هذه الدول، وانه في الظروف الراهنة لا تتوفر مثل هذه الاجواء بين طهران وبعض العواصم العربية الاساسية. لسنا نعلم الى اي مدى سيتابع الأمين العام لجامعة الدول العربية مقترحه، ولكن بانتظار ادخال التوضيحات المطلوبة على المشروع، فإن من المستطاع مناقشته من زاوية مختلفة تتعلق بنظرة الأمانة العامة لجامعة الدول العربية الى دورها والى اولوياتها والى الحوافز والتطلعات التي تقف وراء المقترحات التي تتقدم بها الى الدول الاعضاء. وتوفر وثائق الجامعة ذخيرة كافية لتحديد هذه المسؤوليات والاولويات. فبروتوكول الاسكندرية الذي وقع عام 1944 يقرر ان مهمة مجلس الجامعة، واستطراداً الأمانة العامة، هي «مراعاة تنفيذ ما تبرمه هذه الدول (العربية) في ما بينها من الاتفاقات و ... توثيق الصلات بينها وتنسيق خططها السياسية، تحقيقاً للتعاون بينها (....) وللنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية ومصالحها». ويكرر ميثاق الجامعة الذي تم توقيعه خلال شهر آذار (مارس) عام 1945 هذه المهام باعتبارها الهدف الاساسي للجامعة. هذا ما نقرأه ايضاً في الخطب التي القاها الآباء المؤسسون يوم التوقيع على الميثاق، والتي اعربت عن اماني القيادات العربية آنذاك في تجاوز فكرة التنسيق الى تحقيق الاتحاد بين الدول الأعضاء. وكما هو واضح من هذه النصوص، فإن المهمة المركزية للجامعة التي تتقدم على سائر الاهداف والمسؤوليات هي تنمية العلاقات بين الدول العربية نفسها. وعلى هذا الصعيد، لا تختلف جامعة الدول العربية والنظام الاقليمي العربي عن اي منظمة اقليمية او نظام اقليمي في العالم. فمعاهدة روما التي تم التوقيع عليها عام 1957 والتي تعتبر بمثابة برنامج لعمل واهداف السوق الاوروبية المشتركة، تحدد في المادة الثانية هدف تطوير العلاقات بين الدول الاعضاء باعتباره هدفها الاول الذي تتحدد في ضوئه سائر الاهداف الاخرى والفرعية وكافة المناهج والاستراتيجيات التي تتبعها هيئات السوق. وعلى هذا المنوال نسجت «آسيان» و»ميركوسور» وغيرها من التكتلات الاقليمية الناجحة، اولوياتها. ان اعطاء العلاقات بين الدول الاعضاء في التكتلات الاقليمية الاولوية لا يعني التقصير في اقامة علاقات طيبة مع الدول الاخرى. فهذا الهدف يبقى ايضاً من الاهداف الرئيسية للمنظمات الاقليمية. بيد ان الهدف المحوري الذي يجب ألا يتقدم عليه اي هدف آخر فهو النهوض بالعلاقات بين الدول الاعضاء. السؤال هنا هو: هل انطوى مقترح «رابطة دول الجوار» على تقديم المهم على الأهم؟ هل يتناقض هذا المقترح مع العمل على النهوض بالعلاقات العربية - العربية؟ من حيث المبدأ، قطعاً لا. اما من حيث الواقع فالجواب لن يكون بمثل هذه البساطة. لماذا؟ الجواب هنا يتحدد في ضوء عدد من المعطيات والملاحظات: اولا: ان اقتراح اقامة «رابطة دول الجوار»، صادر عن جهة لا تلتزم التزاماً دقيقاً بأولوية تطوير العلاقات العربية – العربية على ما عداها من الانشغالات. انها تعطي هذا الهدف بعض الاهتمام ولكن موقفها منه لا يرقى الى مستوى الاهتمام والمتابعة المطلوبين وفقاً لمواثيق الجامعة والمبادئ التي دعت الى انشائها. هذا ما يمكن استنتاجه من مراقبة انشطة الجامعة اذ يتبين افتقارها الى التحديد الدقيق للأولويات، وان الاحداث وردود الفعل تحكم هذه النشاطات من دون ان تندرج في اطار مسعى دؤوب لتطوير العلاقات العربية الجمعية وتعميق مؤسسات العمل العربي المشترك. حتى يتأكد المرء من هذا الواقع يمكنه العودة الى الموقع الالكتروني لجامعة الدول العربية الذي يغيب عنه ادراج مسألة النهوض بالقضايا العربية بين «القضايا العربية» التي تهتم بها الجامعة! قد يقال هنا ان الجامعة العربية تمكنت خلال عهد الأمانة العامة الحالية من تحقيق مشاريع مجلس الأمن والسلم العربي والبرلمان العربي والقمة الاقتصادية العربية. صحيح، ولكن القوة الدافعة الى تحقيق المشروعين الاولين كانت الخارجية المصرية، وليست الأمانة العامة. والحقيقة ان موقف الأمانة العامة كان متحفظاً وسلبياً تجاه فكرة مجلس الأمن والسلم العربي عندما تم تداولها في الصحافة العربية، الى ان ادرجتها وزارة الخارجية المصرية في اطار مشروعها للنهوض بالعلاقات العربية - العربية، فغيرت الأمانة العامة موقفها تجاه الفكرة وتبنتها. اما المبادرة الى عقد القمة الاقتصادية العربية فجاءت نتيجة مبادرة مشتركة مصرية - كويتية وليست نتيجة مبادرة من الأمانة العامة. ثانيا: فضلا عن هذا وذاك فإن من المفروض ان تعمل الامانة العامة والهيئات المسؤولة عن العمل العربي المشترك على تعميق وتفعيل وانجاح الهيئات والمؤسسات الموجودة والمولودة والمقررة مثل الهيئات الثلاث، قبل ان تنتقل الى اقتراح الجديد منها والا يزداد عدد المؤسسات الصورية التي لا تعمق النظام الاقليمي العربي ولا تفيد الدول العربية ولا حتى دول الجوار. وحتى الآن، وبرغم النوايا الحسنة هنا وهناك، فإننا لا نستطيع القول ان الأمانة العامة بذلت جهداً كافياً وملحوظاً من اجل تفعيل الهيئات الثلاث. ثالثا: شكا الأمين العام من محدودية امكانات الأمانة العامة. وشكواه هذه في محلها تماماً. فالذي يقارن بين عدد العاملين في الاتحاد الأوروبي الذي يصل الى حوالى 36 الف موظف، بينما لا يزيد عدد العاملين في جهاز الجامعة العربية عن بضعة مئات يفهم اهمية شكوى الأمين العام للجامعة. والذي يقارن بين مدخول الاتحاد الأوروبي السنوي الذي زاد عام 2004 عن البليون يورو وبين موازنة جامعة الدول العربية التي لا تزيد عن 25 مليون دولار، يقدر هزال الامكانات المادية التي تملكها الجامعة. هذا الواقع يفرض على الامانة العامة ان تحدد بدقة اولوياتها وان تستثمر طاقاتها القليلة في خدمة هدفها المركزي، وألا تشتتها. رابعاً: ان الغرض السليم من اقتراح الامانة العامة الا وهو تطوير علاقات الصداقة والتعاون مع دول الجوار قابل للتحقيق من خلال اطارات دولية واقليمية عديدة تضم العرب والاتراك والايرانيين مثل منظمة المؤتمر الاسلامي وكتلة عدم الانحياز وكذلك عن طريق تعاون الجامعة مع منظمة التعاون الاقتصادي التي تضم تركيا وايران وافغانستان ودول آسيا الوسطى، من جهة اخرى. ان اخذ هذه المعطيات والحقائق بالاعتبار يساعدنا على تحديد اولويات العمل العربي المشترك بدقة اكبر، ويوفر بالأحرى على جامعة الدول العربية الهروب الى الجوار بدلا من ان تركز القسط الاكبر من وقتها وجهدها في المكان المناسب الا وهو العلاقات العربية - العربية. * كاتب لبناني