منذ بدايات الفن السابع ابدى كثر من مخرجي السينما رغبتهم في تحويل رواية «في قلب الظلمات» الى فيلم سينمائي. ولئن كان الأشهر من بينهم أورسون ويلز، فإن ثمة أسماء تذكر في هذا السياق لا تقلّ أهمية عن صاحب «المواطن كين» مثل دافيد لين وغريفيث وروبين ماموليان وحتى جون فورد... غير ان الوحيد الذي تمكن من تحقيق مشروع كهذا وفي شكل موارب على أية حال، كان فرانسيس فورد كوبولا الذي صاغ سيناريو فيلمه الكبير «يوم القيامة الآن» بالاستناد الى تلك الرواية مع تغييرات اساسية في زمان أحداثها ومكانها. مهما يكن، تبقى هذه الرواية واحدة من أكبر روايات القرن العشرين، كما يبقى كاتبها واحداً من اعظم كتّاب ذلك القرن. كان اسمه تيودور كورزينوفسكي... فهل يعني هذا الاسم لأحد شيئاً؟ ربما للبولنديين وحدهم، على اعتبار ان اسمه هذا يدل بوضوح على انه كان بولندياً، مع انه ولد في مدينة برديتشيف في أوكرانيا. وكان ذلك في عام 1857. وكان أبوه ملاكاً للأرض يعيش هناك، من دون ان يفوته ان يفخر في كل لحظة بكونه بولندي الأصل، وربما أيضاً - وفق ما كان يقول - من أصل نبيل. ومع هذا، على رغم ذلك الأصل وعلى رغم الجاه والمال، ما إن شب الفتى تيودور عن الطوق عند بدايات الربع الاخير من القرن التاسع عشر، حتى قرر ان يرحل عن وطنه الاصلي، كما عن مسقط رأسه، الى أبد الآبدين. فهو ما كان ليرضى ان يمضي بقية حياته مزارعاً، هادئاً يكوّن أسرة ويموت مجهولاً تماماً. كان تيودور من طينة اولئك الذين تنزرع في افئدتهم منذ صباهم أشواق المغامرة والتعب والصعود الى أعلى الذرى. وهكذا سيحقق الفتى أحلامه لاحقاً، ولكن تحت اسم آخر، وفي وطن آخر. الوطن هو بحار العالم ومجاهله ولكن انطلاقاً من بريطانيا التي اختارها وطناً ومنطلقاً نهائياً له. أما الاسم فهو جوزف كونراد... اي الاسم الذي عرف به كاتباً من أخصب كتاب زمانه، وهو أمر يشهد عليه على الأقل ما ذكرناه من تطلع سينمائيين كثر الى أفلمة روايته الكبرى التي نتحدث عنها هنا . لقد ماتوا جميعاً وفي قلب كل منهم غصة لأنه لم يتمكن من ان يحقق واحداً من أروع أحلام حياته الفنية: ان يحوّل «في قلب الظلمات» الى فيلم. أما الذي حقق الحلم حقاً، فكان فرانسيس فورد كوبولا ولكن في شكل جزئي: فهو استعار موضوع رواية كونراد، وأجواء شخصياتها، لينقل احداثها وعوالمها من الكونغو، حيث تدور الاحداث اصلاً، الى فيتنام خلال الحرب الاميركية هناك. فكوبولا عرف كيف يرى في رواية كونراد هذه، موضوعاً كونياً، كما حال «هاملت» او «اوديب» او «فاوست» يصلح لأزمان وأماكن متنوعة. وقد لا نكون في حاجة الى التذكير هنا بأن فيلم كوبولا هذا يعتبر واحداً من افضل عشرين فيلماً حققت على مدى القرن العشرين، كما يعتبر واحداً من ابرز الافلام التي اتخذت من الحرب موضوعاً لها. ولكن هل الحرب، حقاً، موضوع «القيامة الآن»؟ ابداً. وكذلك ليست الحرب موضوع «في قلب الظلمات». «في قلب الظلمات» هي، في المحصلة الاخيرة، رواية ذات رداء يرتبط بالمغامرة، لكنها ذات جوهر فلسفي، وتحديداً من ذلك النحو الذي كان يستهوي كونراد الذي كان يستقي مواضيعه من بعض أسفاره ومغامراته، وغالباً ما جعل افريقيا والشرق ميدانين لأحداث تلك المواضيع. والحال ان الطابع الجوهري الغالب على معظم تلك الاعمال انما هو طابع فكري تأملي نفسي ينتمي، مبكراً، الى القرن العشرين اكثر من انتمائه الى أزمان غابرة. لقد قيل عن روايات كونراد دائماً انها تمتلئ بالصباحات التي تبدو هادئة للوهلة الأولى، ثم تتكشّف مملوءة بالنساء الغامضات والعواصف الساحقة... كما مياه البحار والمحيطات تماماً. وفي مثل تلك المناخات كان كونراد يضع شخصياته، وغالباً في بيئات معادية لها - بحر هائج، غابات ساحرة قاسية - ثم يحركها راسماً عوالمها النفسية، مؤكداً تأثير المناخ في تصرفاتها، كاشفاً الاسباب الذاتية جداً التي تدفع المغامرين الى مغامراتهم عاثراً في قلب المخاطر على ما يحرك النوازع الداخلية لتلك الشخصيات، دافعاً إياها الى تعرية ذواتها في ألعاب جحيمية تختفي فيها الفوارق بين الذات والموضوع وبين الجلاد والضحية وبالتالي بين الخير الشر. والحال ان قوة «في قلب الظلمات» تكمن في كونها تمثل النموذج الاكثر نمطية لأساليب جوزف كونراد ومواضيعه هذه. والرواية تبدأ فوق مركب يمخر مياه نهر التاميس اللندني، حيث يجلس مارلو، بطل الرواية وراوي أحداثها ليتذكر نهراً آخر ينساب منذ سحيق الازمنة في عالم آخر وقارة اخرى: وسط «بلاد العاج» في افريقيا. وما يرويه لنا مارلو هو «مغامرته» هناك، حيث انه، وهو المولع بالإبحار في نهر غامض غريب، قيّض له ان يتسلم قيادة سفينة نهرية تعمل لحساب شركة تتاجر بالعاج، من دون ادنى اهتمام بحياة سكان البلاد الاصليين ومصيرهم. ولهذا النهر مسار يكاد يشبه حركة جسم ثعبان عنيف ومتقلب. اذاً، ينطلق مارلو على ظهر المركب في رحلة سرعان ما ستبدو اشبه بالكابوس، ويصل الى مقر الشركة في قلب ذلك البلد الافريقي، لكنه سرعان ما يلاحظ ان المكان خرب، بل إن الخراب يطاول مركبه الذي سيتبين له ان خصوماً له، حسودين، خرّبوه كي لا يتمكن من مواصلة رحلته الى حيث يقيم باحث عن العاج ناجح في عمله يدعى كورتز، انقطعت اخباره فجأة. وهكذا حين يتابع مارلو إبحاره بعد ان يصلح مركبه، تكون مهمته الرئيسة هذه المرة العثور على كورتز. وهكذا يكون الانطلاق الى مكان ناء يبدو وكأنه يقف خارج العالم تماماً، مكان يفترض ان يبحث فيه عن ضالته. والحكاية الاساسية هنا هي حكاية هذه الرحلة النهرية التي ستدوم شهرين، وسيتمكن مارلو في آخرها من العثور على كورتز... ولكن اي كورتز؟ ان مسار الرحلة، التي ستبدو لمارلو وكأنها سفر الى اسحق الازمنة والى بدايات هذا الكون، يستغرق شهرين من الغموض والتشويق والتأمل، واختراق ادغال تبدو صامتة كالموت، معادية، مهدّدة، وعبور مناطق يبدو السكان الاصليون فيها، حين يظهرون بين الحين والآخر، اشبه بكائنات خرافية تشكل جزءاً من طبيعة أزلية. ومن هنا ليس غريباً، ولا سيما في الليالي المرعبة بصمتها، ان يلمح مارلو ورفاقه أشكالاً اسطورية تقفز بين الاشجار عند ضفتي النهر، ولكن من دون ان تبادر بأي تصرفات عدائية حقاً. ان العدوانية والخطر يلوحان دائماً من خلال الصمت المطبق، الذي لا تخرقه بين الحين والآخر، سوى همهمات وأصوات مختنقة. إن كل هذا يعزز الصمت العام، ويعزز كذلك الشعور بأن كل ما يجتازه المركب انما هو علامات تقود الى نهاية ذلك السفر في جحيم الظلمات. وبعد ان يتقدم المركب ببطء وفي ذلك المناخ الكابوسي الغريب، والذي على أية حال يشعر مارلو بأن ثمة في خلفية ذلك كله، شيئاً انسانياً في جوهره، له صفاء الانسانية الحقة لا تلك التي صاغتها الحضارات والثقافات، يصل اخيراً الى مقر كورتز. فإذا بالحقيقة تختلف عن التوقعات: ان كورتز الذي جاء الى المكان ليجمع العاج، انتهى به الامر الى ان يصبح اشبه بوثن حيّ بالنسبة الى السكان الاصليين، فأقام ما يشبه الامبراطورية المستقلة التي صار هو سيّدها الوحيد وصنمها. صحيح انه الآن مريض ويكاد يحتضر، لكن السكان لا يريدون ان يسمحوا للبيض باستعادته: لا يريدون ان يفقدوا معبودهم... لكن مارلو يتمكن في النهاية من اخذه عنوة الى المركب هارباً به من السكان الذين تنتفض من بينهم امرأة ضارية غاضبة يبدو من الواضح انها تجسّد حزنهم ومفاجأتهم وغضبهم في آن واحد. لكن كورتز سرعان ما يموت فوق المركب، ويعثر مارلو بين اوراقه على رزمة رسائل تخص خطيبة كورتز في لندن. وهكذا حين يصل مارلو الى لندن يود ان يعطي الرسائل الى الخطيبة ويروي لها ما حدث. لكنه امام حبها لكورتز وإخلاصها له، يكتفي بأن يبلغها بأمر موته، ساكتاً عن الباقي، مؤكداً لها ان الراحل انما لفظ أنفاسه الاخيرة وهو يتمتم باسمها. رواية «في قلب الظلمات» التي تعصى بالتأكيد على التلخيص، لأنها اكثر من رواية احداث ومواقف ومغامرات، نشرها جوزف كونراد (1857-1924) للمرة الأولى مسلسلة في صحيفة في العام 1899، واعتبرت منذ ذلك الحين، عمله الروائي الاساس (على رغم انه كتب قبلها وبعدها اكثر من 30 رواية) لا تنافسها في تلك المكانة سوى اعمال قليلة لكونراد منها: «لورد جيم» و «الإعصار» و «نوسترومو» و «العميل السري». [email protected]