يمكن اعتبار السينما السياسية جزءاً من السينما التاريخية، طالما اننا نعرف أن من مهمات الفيلم السياسي ان يتناول حدثاً أو موقفاً تاريخياً، أو صار جزءاً من التاريخ أو هو مرشح لأن يصيره، غير أن ما هو جدير بالذكر هنا، هو ان الفيلم السياسي، بالمعنى الحرفي للكلمة، صار له منذ سنوات عدة استقلال لم يكن له في السابق، إذ صار ولدى كثر من السينمائيين، المشاكسين بخاصة، فعلاً سياسياً في حد ذاته، وليس في الضرورة بالمعنى الذي كان يتحدث عنه مناضلو الستينات من طريق الكاميرا: استخدام السينما سلاحاً في المعارك. فهذا المعنى هو شعار الحد الأقصى، أما السينما السياسية «الأخف وطأة» والتي لا تصنع ل «نخبة المناضلين»، فإنها بدت دائماً أكثر فعالية وجماهيرية، ولا سيما من خلال اشتغالها على الوعي والفضح ومساعدة المتفرجين على تحليل الأبعاد الخفية للألعاب السياسية. وهكذا، إذا كانت أفلام مثل «تعصب» لغريفيث، أو «الدارعة بوتمكين» و «أكتوبر» لايزنشتاين، أو «انتصار الإرادة» للنازية ليني ريفنشتهال، أو حتى «متروبوليس» لفريتنز لانغ، و «شيبيون الأفريقي» وغيرها كانت كلها أفلاماً سياسية، فإنها كانت في الوقت نفسه أفلاماً دعاوية، حيث سخّر صانعوها عبقريتهم لخدمة أنظمة سياسية، ما ينفي عن هذه الأفلام صفة «سياسية» بالمعنى الحديث للكلمة. في المقابل يمكن اطلاق هذه الصفة على أفلام أخرى، قد لا يكون معظمها في روعة وقوة الأفلام التي ذكرنا، لكنها ذات مفعول سياسي مشاكس أكيد. ومن هذه الأفلام، على سبيل المثال «الدكتاتور» لشابلن، و «فهرنهايت 11/9» لمايكل مور و «المانيا في الخريف» لفاسبندر، و «الأيدي فوق المدينة» لفرانشسكو روزي، و «الجندي الصغير» لغودار وحتى «روما مدينة مفتوحة» لروسليني. فالمشترك بين هذه الأفلام وغيرها هو قدرتها على التعبئة المشاكسة على الضد من الأعمال الأخرى القادرة على التعبئة الأيديولوجية... غير أن ما لا بد من التوقف عنده هنا هو أن الفيلم السياسي، ومنذ الستينات، في حمأة استشراء ثورات الشبيبة وتعمّم الوعي الفني، وانطراح قضايا التخلف والاستقلال والدكتاتوريات والاستغلالات المختلفة، في العالم الثالث وغيره، صار أكثر حدة ووضوحاً... وإذا كان ثمة من أفلام تحضر في هذا الصدد في الذاكرة، لا بد من ذكر الفيلم الرائد «زد» لكوستا غافراس، الذي شكل بداية معينة للون سينمائي سياسي مباشر، سار على هديه كثر. وفي هذا الإطار نفسه، إذا كنا نعرف ان السينما التاريخية المضادة للحرب، قد ظهرت منذ النصف الأول من القرن العشرين - قرن السينما بامتياز»، وانتجت أعمالاً رائعة مثل «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» عن رواية اريك ماريا ريماركي، و «الوهم الكبير» لجان رينوار، فإن هذه السينما شهدت ازدهاراً كبيراً منذ هزيمة الولاياتالمتحدة في الحرب الفيتنامية، مع أفلام مثل «يوم القيامة الآن» لفرانسيس فورد كوبولا (المأخوذ عن «في قلب الظلمات» للروائي جوزف كونراد) و «سترة معدنية كاملة» لستانلي كوبريك (المأخوذ عن رواية غوستاف هاسفورد «الأوقات القصيرة»)... في أفلام الحرب (أو بالأحرى: أفلام الاحتجاج على الحرب) تضافر الأدب إذاً، مع السينما ليقدما متناً طويلاً عريضاً، مأخوذاً من التاريخ الحقيقي،همه النضال ضد فكرة الحرب نفسها، وهو موقف نجد جذوره في أعمال تنتمي الى الحرب العالمية الثانية («أجمل سنوات حياتنا») كما استكملته أفلام عدة تالية، ساهمت في جعل سينما الحرب، نوعاً يكاد يكون ذا استقلالية تامة، ولو من ناحية المواقف المعلنة، أو المواربة، للمبدعين. إذ، إن كان في امكان السينما التاريخية أن تكون أحياناً، أو غالباً، محايدة في رصدها الأحداث، فمن البديهي أن المبدع الحقيقي، أيّ مبدع حقيقي، لا يمكنه أن يكون محايداً في أي حديث عن الحرب، هذه «المجزرة الشرعية» كما سماها هنري باربوز يوماً.