يصادف قارئ صفحات الاقتصاد في الصحف والمجلات مفردات مالية تقنية غربية شائعة في شكل شبه يومي، منها محاولة شراء أو اندماج عدائية لشركة (hostile acquisition/merger)، أي من دون رضى مجلس الإدارة والمساهمين، أو على عكسها مسالمة (friendly acquisition)، أو كلمة إعادة تموضع (repositoning)، فهذه خطوات أو خطط تعتمدها الشركات، أكان في عملها اليومي أو للمدى الأبعد، تعود جذورها الى العلم العسكري. وفي حين اعتاد المواطن العربي، لا سيما في الثورات الأخيرة، ان يرى العسكر من منظار الخوف أو البُعد أو الحَذر، علماً ان دولاً عربية عدة حكمها ضباط وحمل حكمهم الكثير من الجدل والمغالطات... نكتشف في ندوة نظمتها جامعة الروح القدس – الكسليك (لبنان) عنوانها: «ضباط القيادة في الجيش اللبناني يحاضرون في فن القيادة»، نكتشف الوجه الآخر للمؤسسة العسكرية التي كانت عبر التاريخ المدماك الأول للتخطيط والتنظيم المؤسساتي، قبل قرون من تأسيس الشركات والمنظمات والمؤسسات العامة كما نعهدها حالياً. واللافت ان القادة العسكريين تنافسوا خلال المحاضرة، التي جمعت للمرة الأولى بين فنّ الإدارة في عالم الأعمال وفنّ الذود عن الوطن، على الإفصاح عن قدراتهم القتالية والتنظيمية وإنجازاتهم ومناصبهم ومهامهم التي تجاوزت لكل واحد منهم 30 سنة تدريب ومهمة محلية وخارجية، وهم بالتالي، يتفوّقون على أكبر مدير في شركة عالمية من حيث تراكم الخبرات والتدريب في مسيرتهم المهنية. هناك قادة عسكريون كبار، كالإسكندر المقدوني وطارق بن زياد وبونابرت وأيزنهاور وفوش ورومل ومونتغومري، دخلوا التاريخ عبر إنجازات عسكرية خالدة، وفقاً للخبير في التسويق، الشريك المؤسس في شركة «كليمانتين» اللبنانية للإعلان، جورج نجم، لكن هؤلاء القادة، بالإضافة إلى فتوحاتهم العسكرية ادخلوا تقنياتهم وتكتيكاتهم ومفرداتهم العسكرية إلى عالم الأعمال وإدارة الشركات، كمصطلح «التموضع»، في عالم شركات التسويق التي تتنافس في عرض منتجاتها في السوق الاستهلاكية، والتي يوازيها تموضع الجيوش في الميدان، ومصطلح «الهدف»، الذي يستعمل في تحديد زبون الشركات المستهدف ويشكل الحجر الزاوية لكل حملة تسويقية، ويستخدمها ضابط المدفعية في تدمير أهداف العدو. ثم مصطلح «إستراتيجيا» المذكور مئات المرات يومياً والذي تخصص له فصول في برامج التدريس الجامعية، كاستراتيجيا التسويق واستراتيجيا الخروج من الأزمة المالية والاستراتيجيا الاستثمارية وغيرها، وهي أيضاً يتفوّق فيها العسكر، وأبرز من وصفها القائد العسكري الألماني كارل فون كلاوزفيتز الذي قال: «الاستراتيجيا هي فنّ عدم القتال إلا في حالة التفوّق المطلق»، وفقاً لنجم، الذي لفت إلى ان القائد العسكري الصيني، سون تزو، أشار في كتابه الشهير «فنّ الحرب» إلى ان «الفرص تتضاعف حين تُغتنم»، وهو المبدأ التوجيهي الأساس الذي تُبنى عليه خطط التجار والمستثمرين في البورصات وتوسّع الشركات في الأسواق العالمية. ولفت نجم إلى ان الجنرال الأميركي دوايت أيزنهاور أدار خلال الحرب العالمية الثانية 11 مليون نَفر من جيوش الحلفاء، ولم يسجل التاريخ في علم الإدارة مديراً واحداً يدير هذا العدد من المرؤوسين والتجهيزات ووسائل التموضع والتمويل والخطط عبر القارات في وقت واحد. وبدوره، أفاد مدير العمليات في الجيش اللبناني العميد الركن مارون حتّي بأن الجيش تاريخياً كان يتألف من كتلة غير منتظمة، وبدأ يتحول عبر القرون إلى مؤسسة منظمة في شكل معقّد وموسع، كما نعهدها حالياً، ذات هرمية إدارية قادرة على التحرك بفعالية. وتابع: «الجيش ليس هدفاً بحد ذاته، بل هو وسيلة عمل فيها درجة عالية من التنظيم». واستند حتّي إلى مثل إنكليزي يقول ان «المدير ينفّذ المهام في شكل جيّد، في حين ان القائد يفعل الصواب»، موضحاً ان العمل المنظم يشتمل على نظرية واضحة وأسلوب منفّذ جيداً وقدرة على استنباط الحلول، فالحرب والمعركة تعنيان العمليات على الأرض أي التعاون والتنسيق، أما الأسلوب المعتمد فهو كيف يتفاهم العسكر مع بعضهم، اسوة بتنظيم الشركات. وتابع ان الضابط ليس شخصاً ينفّذ الأوامر فقط، بل يعطيها أيضاً. ولفت إلى ان الخطة هي الإعداد لعملية معينة تسمح بتنفيذها والتكيّف مع المستجدات في شكل كفي، لكن الخطة من دون إستراتيجية هي «كالقفز من دون مظلة». وأوضح ان الخطة العسكرية تأتي من استراتيجية دفاع وطنية يضعها رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء (يوازيان منصب رئيس مجلس إدارة شركة) ويتطلع اليها المجلس الأعلى للدفاع (مجلس الإدارة في شركة) ويحولها إلى المجلس المركزي للأمن لوضع الاستراتيجيا (بمثابة الإدارة التنفيذية في الشركات)، ثم تنتقل إلى قائد الجيش فالعمليات التي تضع الخطط وتدير العمليات وتنسق مع الألوية والوحدات. ولفت حتّي إلى ان المراقب قد لا يفهم طريقة عمل العسكريين الذين قد يدخلون في معارك منظّمة أو غير منظمة، ودورهم هو ان يستنبطوا هذه الفوضى نظاماً. وتحدث قائد فوج المغاوير (أي الوحدات الخاصة) العميد الركن شامل روكز عن «الشجاعة والتحفيز»، قائلاً ان الشجاعة تعني الإقدام، وهي أولى الفضائل البشرية وهي شعور داخلي يتحلى به الشخص، إذ كما يقول بونابرت «لا يمكن التظاهر بالشجاعة». وتابع ان فن القيادة، في العسكر ام في الشركات، هو شعور داخلي يجعل المرء خلاقاً في اخذ القرارات المصيرية، ولفت إلى ان «فن جَعل المستحيل ممكناً أمر مهم عند القائد (المدير)، وهو الذي يجعل رجاله (موظفيه) ينجزون أموراً عظيمة»، مستطرداً انه «إذا أردت ان تختبر شخصاً، أعطه السلطة». وأوضح ان القائد قد يتخذ في أحيان كثيرة قرارات غير شعبية او مألوفة، أو مخالفة لأوامر رؤسائه، لكنه يتحمل مسؤولية قراراته ويستعيد زمام المبادرة بسرعة، تماماً كما حين يتخذ مجلس إدارة شركة قرارات لا تناسب المساهمين أو تزعج الموظفين، لكنها تكون ضرورية. وأعطى روكز مثالاً على الروح الخلاقة وأخذ المبادرة خلال معارك في عام 2007، حين استخدمت مدافع مباشرة عيار 122 ميليمتراً لتضرب على مسافة قريبة لا تتجاوز 200 متر، أو حين وُضعت قنابل تستخدم في طائرات «هاوكر هانتر» العسكرية على طوافة غير مجهزة لحملها أساساً، وحُسمت المعركة بفضلها. ولفت قائد فوج المجوقل، العميد الركن جورج نادر، إلى ان عملية «إعادة التنظيم الهيكلي في أوقات الصعوبات» هي المدماك الأساس للسيطرة على الوضع والخروج من الأزمات، وأوضح ان إدارة الفوج في العسكر (عداده بين 800 وألف جندي) تشبه إلى حد بعيد إدارة الشركات وأقسامها المختلفة، إذ يتألف الفوج من قسم الإدارة البشرية الذي يتولى سد النقصّ البشري في الوحدات وإعطاء المأذونيات، وقسم الأبحاث والتطوير الذي يتولى الاستعلام عن العدو والمناخ والجغرافيا وأمن الوحدات والتقيّد بالأنظمة العامة، وقسم العمليات الذي يقع على عاتقه التدريب ووضع خطط للعمليات الميدانية، والقسم اللوجستي الذي يتولى التموين وتصليح الآليات وإسعاف المصابين، وقسم المعلوماتية الذي يصل قيادة الأركان بالأفواج. وأعطى مثالاً حياً على خطة إعادة التنظيم (التي تنطبق أيضاً على الشركات المتعثّرة)، موضحاً انه حين تسلم قيادة العمليات العسكرية في نهر البارد (شمال لبنان) في آب (أغسطس) عام 2007، وكانت لديه مهلة قصوى 48 ساعة لإعادة تنظيم فوج خسر 354 عضواً بين قتيل وجريح أثناء المعركة الشرسة، من أصل 880، أي كان الفوج جاهزاً بأقل من 60 في المئة من طاقاته وعديده، «ما يعني استحالة القتال في العلم العسكري التقليدي، الذي يفرض جاهزية 75 في المئة على الأقل من طاقات الفوج»، وأوضح ان فن القيادة عند القائد هو تشجيع العسكريين وشدّ عزيمتهم والتماهي معهم وتفّهم ظروفهم، وهذا ما فعله حين جمعهم وأراهم الجروح البليغة التي تعرض لها في الخدمة، وأجبر كل ضابط على ان يكون مسؤولاً عن تأمين الحماية لمرؤوسيه أثناء المعركة، وقسم الفرق وأعطاها إجازات مداورة كي ترتاح، وهو الأمر الذي أعطى العسكر العزيمة على الاستمرار في المعركة وإنقاذ زملائهم والانتصار. ودعا قائد فوج مغاوير البحر، العميد الركن عبدالكريم هاشم، في كلمته حول «التصرف والدقّة في أوقات الأزمات والكوارث» إلى ضرورة وجود خليّة أزمات في الدول العربية كافة، تواجه كوارث محتملة، من سقوط طارئة إلى هزات أرضية و «تسونامي». وشارك الحضور تجربته في قيادة عمليات تحديد حطام الطائرة التجارية الإثيوبية التي سقطت في البحر بعد إقلاعها من مطار بيروت الدولي في كانون الثاني (يناير) العام الماضي، في أول كارثة من هذا النوع تحصل في لبنان. وشرح كيفية عمل فرق الإنقاذ في ظروف مناخية سيّئة وحرارة متدنية طوال 40 يوم عمل، لتحديد مكان جسم الطائرة وانتشال جثث 90 راكباً، عبر 1500 عملية غطس بحري لغاية أعماق قياسية، بوسائل بدائية، من دون تسجيل أي حادث غطس. وهي المرة الأولى عالمياً التي «تنتشل فيها كل الجثث، اضافة الى الصندوقين الأسودين لطائرة منكوبة في البحر»، وفقاً لهاشم الذي لفت إلى أهمية العمل الجماعي والانضباط، لأن «لا أحد ينجح وحده»، أكان عسكرياً أم مدنياً.