حرّكت مجلة «شعر» اللبنانية واحداً من أكبر سجالات القرن العشرين العربي. ففي مدار السجال حول القديم والجديد في الشعر: بين عمودي موزون مقفى، من جهة، وشعر حر (قصيدة التفعيلة) وشعر منثور وقصيدة نثر، من جهة ثانية، ثم بين مذهب الالتزام ومذهب الحرية في الشعر، تحركت قضايا وأثيرت موضوعات وطرحت مشكلات من حقول وفروع مختلفة تمتد من الدين إلى القومية والتراث والسياسية والعلاقة بالغرب وبالماضي والجذور، ومن اللغة والنضال ودور الكاتب والكتابة بل دور الإبداع اجمالاً، وصولاً إلى تفاصيل التقنيات الشعرية والأصول اللغوية. بهذه الكلمات تبدأ الناقدة خالدة سعيد فصلاً في كتابها الجديد «يوتوبيا المدينة المثقفة» (دار الساقي) تعرض فيه لتاريخ هذه المجلة المثيرة للجدل والتي ما ان ينتهي حولها سجال حتى يبدأ سجال آخر. فهي عند البعض فاتحة التجديد والحداثة في الشعر العربي، وهي عند البعض الآخر مجلة مشبوهة كانت تمولها منظمة حرية الثقافة المرتبطة بوكالة المخابرات الأمريكية. تقول خالدة سعيد إن مجلة شعر ولدت في أجواء متوترة ملتهبة سياسياً وقومياً. إنها أجواء ما بعد نكبة فلسطين والحركات الانقلابية والسياسية التي كرّدات فعل تلك «النكبة» وعلى القصور العربي وتبنت خطاباً جماهيرياً قومياً. في هذه الأجواء الملتهبة الواعدة كان هناك على المستوى الأدبي خطاب رئيسي ينتمي إلى التيار العروبي هو خطاب النضال من خلال الكلمة أو الأدب. وفي مقدمة المندفعين لتقديم كل شيء للمعركة كان سهيل إدريس (1925-2008م) الروائي صاحب مجلة الآداب (1953م) الذي أطلق مجلته في وقت واحد مع الدعوة إلى الالتزام في الأدب كما عبر عنها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارنر. «ولكن هذا الاتجاه أدى إلى تقديم الموضوع الملتزم والفعالية في العمل الأدبي على البناء الفني وعمق الرؤيا والصدق الذاتي». وتضيف الباحثة أن من أراد ان يفسر أو يتفهم العنف الذي واجه به سهيل إدريس ومجلته ما وُصف بأنه الاتجاه الذاتي، أو التحرري التجديدي الذي مثلته مجلة «شعر» ينبغي ان يعود إلى أعداد مجلة «الآداب» في أعقاب هزيمة حزيران 1967م، ليتعرف إلى صدمة المفاجأة والهلع الغاضب المفجوع الذي عبر عنه صاحب «الآداب». وبعد ان كان ينتخب للنشر النصوص المتفائلة الملتهبة بمشاعر الوطنية، بات يتخيز للنشر من المقالات والقصائد أعنفها وأشدها حزناً ونقداً وغضباً. لكن في المرحلة التي شهدت ظهور مجلة «شعر» (صدر العدد الأول منها في يناير 1957م)، كان الكلام على التجربة الذاتية والحرية في الشعر يُعتبر، في صورة ما، انصرافاً عن القضايا العربية الكبرى، بل تجاهلاً واهمالاً وصرفاً للشعراء الصاعدين عن هذه القضايا. في حين كان يفترض بهم ان يحتلوا موقعهم في المعركة. يضاف إلى ذلك مسألة المسّ بالتراث الشعري العربي المكرس كبعد من أبعاد الهوية العربية والقومية العربية. لا تنسى خالدة سعيد (وهي زوجة الشاعر أدونيس وكان الشخص الثاني في «شعر» بعد الشاعر يوسف الخال) الإشارة إلى التباس آخر قام حول مجلة «شعر»، هو اعتبار المجلة ممثلة للحزب السوري القومي الاجتماعي. دفع إلى ذلك الالتباس حضور بعض الشعراء الذين كانوا ينتسبون إلى هذا الحزب أو انتسبوا إليه في ما مضى، مثل يوسف الخال. وكان الهجوم على هذا الحزب، في زمن تناحر الأحزاب، على درجة كبيرة من العنف لتضيفه كمعاد للعروبة، أي كاتجاه معاد للمقدسات وللحلم العربي الأغلى. بدأ إذن نمط من السجال بين جبهتين أدبيتين غريب عن لغة الشعر: خطاب تخوين وطني عنيف من جهة مجلة «الآداب»، وخطاب آخر من مجلة «شعر» تصاعدت منه كلمات طوباوبة حول المسار الجديد وحول فدائية الشاعر الجديد بلغت أحياناً درجة تشبيهه بالمخلص.. ولم يقتصر خطاب مجلة «شعر» على إعادة صياغة خطاب فدائي بل استعار أحياناً اللهجة الملحمية الاسطورية، وحتى اللهجة الهجائية، وكان على درجة كبيرة من الحماسة وحتى العنف. يومها كتب أدونيس مقالاً ملتهباً (الوصف لخالدة سعيد) رد فيها على هجوم «الآداب» على «شعر»: «إنهم يصورون التراث العربي تركة موميائية تحرسها الأشباح والتعازيم. إن التراث العربي براء من هذا الفهم.. لقد قامت مجلة «شعر» على تخطي ذلك الفهم المغلق للتراث العربي. لذلك دخلت منذ لحظاتها الأولى التاريخ الشعري والثقافي الحي. وهي لم تدخله دخولاً سهلاً ليناً، وإنما اجتازت العتبة هديراً وبرقاً، والأساسي هو أن رؤياها حية وصادقة، رؤياها للتاريخ والثقافة والشعر والإنسان في العالم العربي. لذلك هي الرؤيا الشعرية بامتياز. إنهم يبشرون بمجتمع القطيع، مجتمع النسخ. كيف نمزج بين التقليد والأصول؟ وكيف لا نرفض؟ كيف لا نضع أنفسنا ووجودنا خارج التقليد ومناخه ومعطياته؟!! ولأسباب فكرية قرر يوسف الخال إيقاف مجلة «شعر» نهائياً خريف 1970م كتب في افتتاحية العدد الأخير من مجلته: «أما موجة الالتزام الكلمة السحرية التي جاءتنا من جان بول سارتر، فقد انهارت مع هزيمة 1967م لأنها صارت سلاحاً في محاربة الفكر الحر والفن الحقيقي الأصيل. وبرأي خالدة سعيد تبلورت في مجلة «شعر» معطيات مبدئية أو خطوط دفاعية تتمثل في المواقف التالية: - الطاقة الإبداعية في الثقافة تنمو وتعبر عن نفسها بالحركة والتجدد لا بالنسخ والتكرار فلا ثبات لأشكال التعبير ولا عصمة للقيم الجمالية السابقة على العمل الفني. - مجلة «شعر» تمثل التطور الحتمي. - ايضاح كون هذا التغير يصدر عن الجذور نفسها وليس دخيلاً. - التوكيد على الانفتاح على التجارب كلها. - ربط الحركة بما يتجدد في العالم. - الاهتمام بالموروث الشعري العربي شرط انتخاب النماذج التي تقترب من الرؤية الإبداعية الأصيلة والأغراض الذاتية (المعبرة عن الإنسان وتجاربه بعيداً عن التقليد). وتنقل عن أدونيس أنه كتب رسالة إلى يوسف الخال، قبل رحيله بشهر واحد، هذا نصها: «بدئياً شئنا ان يكون النص الشعري اختراقاً، وان يكون مكلفاً بالعالم كله وبالإنسان أولاً. ولم يكن في وعينا وعملنا ان نستميل بل ان نستكشف، ولا ان نوفق، بل ان نفتح الذهن على فتنة الأسئلة، ولا ان نتكيف مع الواقع، بل ان نرجه»! وتتدخل نازك الملائكة فتنشر مجلة «شعر» مقالاً لها تحتج فيه على مقال سابق في المجلة ورد فيه أن اعتبار كتاب محمد الماغوط «حزن في ضوء القمر» شعراً ليس في محله. فهو نثر لا شعر. إن اطلاق اسم شعر على النثر لا معنى له سوى شعور أولئك المطلقين بالنقص أمام الشعر الحقيقي»! لا يمكن اعتبار ما كتبته خالدة سعيد عن مجلة «شعر».. عملاً نقدياً بارداً. لقد توخت النزاهة والموضوعية ما أمكنها ذلك، ولكنها عجزت عن تقديم رؤية نقدية متكاملة لظاهرة مجلة «شعر». كانت خالدة سعيد تكتب في مجلة «شعر»، كما كان زوجها أدونيس الشخص الثاني في المجلة ثم إنها قومية سورية أيضاً. ولعل كل هذه الصفات مجتمعة حالت بينها وبين الإصغاء إلى ما قاله بالأمس، ويقوله اليوم، خصوم مجلة «شعر» الذين ارتابوا بأمرها وبدوافع من أصدرها. ويمكن إدراج ما كتبته في باب «وجهة النظر» ولكنها وجهة نظر حرية بالتأمل كما هي غنية بالوثائق وجديرة بأن تطلع عليها أجيال الأدباء والباحثين والشعراء في المستقبل. وفي ذلك ما فيه من الفائدة والنفع.