حدث أثناء حرب تحرير الكويت (1991) أن أطلق العراق على إسرائيل 39 صاروخاً من طراز «سكود» كانت بمثابة رسائل سياسية أمنية موجهة إلى حليفة الولاياتالمتحدة. وعندما توقفت صفارات الإنذار في القدس، خرج بنيامين نتانياهو من الملجأ وتوجه فوراً نحو مكتب قناة «سي إن إن»، وبما أن مدير المحطة كان صديقه الشخصي، فقد طلب منه الظهور ولو لمدة عشر دقائق كي يشرح للمشاهدين خطورة ما حدث. وفوجئ مشاهدو ال «سي إن إن» في حينه بنتانياهو يخاطبهم بالقرب من خريطة ضخمة معلقة على الحائط. وأشار إلى إسرائيل التي اعتبرها نقطة صغيرة جداً بالمقارنة مع اوقيانوس شاسع يضم 21 دولة عربية تغطي رقعة جغرافية ضخمة تمتد من سلطنة عمان شرقاً حتى المملكة المغربية غرباً. وعلق نتانياهو عقب هذه المقارنة بالقول: أن مساحة إسرائيل لا تزيد عن عشرة آلاف وثمانمئة ميل مربع (21.670 كلم مربع)، بينما تزيد مساحة العراق وحده عن مئتين وثمانين ألف ميل مربع (725.255 كلم مربع). ويدعي زعيم «ليكود» انه تلقى بعد انتهاء العرض، عشرات البرقيات من مواطنين يهود يعيشون في الولاياتالمتحدة وأستراليا وأميركا اللاتينية وقد اعترفوا بجهلهم لأبسط الحقائق عن إسرائيل. لذلك اضطر إلى تسجيل أسمائهم في كتابه «مكان بين الأمم» بهدف إقناع الرأي العام العالمي بأن «أمن إسرائيل» لا يقبل المساومة، وبأن حمايتها ستظل هاجسه الأول والأخير. والمؤكد أن كل زعماء إسرائيل يشتركون مع نتانياهو في عقدة الهاجس الأمني، الأمر الذي يدفع اليهود دائماً للاحتماء ب «الغيتوات» المقفلة. لهذا السبب تجاهل بن غوريون تحذير الرئيس الأميركي جون كينيدي، وأمر بتصنيع القنبلة النووية في مفاعل «ديمونا». ولما اكتشف الأميركيون عملية التضليل، أبلغهم أن واشنطن لم تهبّ لإنقاذ اليهود من أفران الغاز خلال الحرب العالمية الثانية! وعندما تولى الوزير الأميركي هنري كيسنجر، مهمة التفاوض مع الرئيس حافظ الأسد حول الانسحاب من الجولان سنة 1974، نقل إليه هواجس إسرائيل الأمنية. وقال إن هضبة الجولان تمثل بالنسبة إلى جنرالات الدولة العبرية، خطراً أمنياً دائماً يهدد مستوطنات الجليل. لذلك يتوقعون منه الموافقة على بقاء فرقة مراقبة إسرائيلية، لأن اتفاق سلام لا يطمئنهم. ورد عليه الرئيس الأسد بمنطق رجل عسكري، مذكّراً أستاذ التاريخ أن طروحاته قد تكون ملائمة لعصر المنجنيق. ولكن الأمن المطلق في عصر الصواريخ العابرة للقارات، يصعب تأمينه ولو حشدت له إسرائيل كل جيشها. المنطق الذي استخدمه نتانياهو سنة 1991 لتنبيه المجتمع الدولي بواسطة قناة «سي ان ان» إلى أهمية أمن إسرائيل، عاد ليكرره أمام الرئيس باراك أوباما وأعضاء الكونغرس وأعضاء اللوبي الإسرائيلي (ايباك). وقد ركز في كل لقاءاته وخطبه على رفض اقتراح أوباما، الداعي إلى عقد اتفاق سلام مع الفلسطينيين على أساس العودة إلى حدود 1967. أي حدود إسرائيل قبل احتلال الضفة الغربية والجولان، على اعتبار أن سيناء وقسماً من الأراضي الأردنية أُعيدتا بنتيجة اتفاقي «كامب ديفيد» و «وادي عربة». استند الرئيس أوباما في نقاشه مع نتانياهو إلى مذكرات مبعوث الوكالة اليهودية سنة 1947 أبا ايبان، وقد تضمنت تفاصيل تلك المرحلة الحرجة عندما تشكلت «لجنة يونسكوب» في جنيف، وقدمت تقريرها إلى أبا ايبان وزميله ديفيد هوروتيز. وفي نهاية الأمر، أوصت اللجنة بتقسيم فلسطين. في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، جرى التصويت داخل الجمعية العامة على هذا الاقتراح، وإنما وسط جلسة صاخبة تميزت بالتحدي والمشاجرة الكلامية. ثم تبيّن من سياق الاتصالات الخفية أن الدول الكبرى تآمرت لتذليل العوائق التي كادت تمنع تنفيذ قرار التقسيم. وحدث في ذلك المساء أن كان مندوب لبنان كميل شمعون يلبي دعوة صديقه جورج مور، رئيس مجلس إدارة بنك «سيتي – غروب»، ولما بلغته نتائج التصويت، علق بامتعاض قائلاً: لقد تأسست الأممالمتحدة على أنقاض عصبة الأمم بهدف منع الحروب. ولكن قرار التقسيم في نظري، شرّع أبواب الحروب في منطقة الشرق الأوسط! ويعترف بن غوريون في مذكراته أن قرار التقسيم لم يثبت سيادة الدولة المولودة من رحم الأممالمتحدة. لذلك افتعل حرب 1948 ليضم مساحات إضافية صادق عليها الرئيس الأميركي هاري ترومان مقابل تأمين مبلغ ضخم كان يحتاجه للانتخابات. ومن بوابة الحرب انضمت إسرائيل في 11 أيار (مايو) 1949 كعضو شرعي في جميع المنظمات التابعة للأمم المتحدة. وهي حالياً تهدد السلطة الفلسطينية بحرمانها من هذا الحق بواسطة «فيتو» الولاياتالمتحدة، مدعية أن شريكتها «حماس» ترفض الاعتراف بإسرائيل، كما ترفض إدانة أعمال الإرهاب التي اجتاحت نيويوركوواشنطن بدليل أنها اعتبرت أسامة بن لادن شهيداً. وواضح من مجريات الأحداث، أن زيارة بنيامين نتانياهو لباريس ولندن وُظِّفت إعلامياً لإظهار الرباعية وكأنها معارضة للمصالحة الفلسطينية – الفلسطينية. وربما أراد من وراء هذا الربط تحريض محمود عباس على فك شراكته مع «حماس» كونها ترفض الاعتراف بإسرائيل. كما أراد إحراجه أيضاً عندما طالبه باحترام الاتفاقات السابقة القاضية بتفكيك منظومة الصواريخ في غزة وتسليمها إلى واشنطن أو الأممالمتحدة. وحدد عددها بعشرة آلاف صاروخ، زاعماً أن إيران أمنتها للمنظمة المتعاطفة معها من طريق التهريب. رئيس السلطة الفلسطينية دافع عن موقفه بإظهار التناقضات التي يقع فيها رئيس وزراء إسرائيل. فهو من جهة يقول إن «فتح» لا تمثل كل الفلسطينيين، ثم يرفض من جهة ثانية النصف الآخر الممثل «بحماس»، علماً بأن شرعية «حماس» جاءت عبر انتخابات عامة وتحت مراقبة فريق الرئيس كارتر ومصادقته. ومع هذا كله، فقد شككت إسرائيل بالنتيجة وأعلنت أن شعارات التنظيم المعارض لا تصلح للسلام المطلوب. وقد عقّب ياسر عبد ربه على هذه الملاحظة بتذكير نتانياهو أن حكومته الائتلافية تضم ثلاثة ممثلين عن أحزاب دينية اهمها «شاس». والمعروف أن هذه الأحزاب تدعي الملكية التاريخية للضفة الغربية بحيث تطلق عليها اسماً توراتياً هو «يهودا والسامرة». وقد تبنى رئيس الوزراء طروحاتها، وأعلن أمام الكونغرس الأميركي أن علاقة الشعب اليهودي بالأرض اليهودية تعود إلى أربعة آلاف سنة. لذلك انزعج من المرأة الغاضبة التي قاطعته بصيحات التنديد والاتهام بتأييد احتلال استمر أكثر من أربعين سنة. لماذا قرر بنيامين نتانياهو تحدي الرئيس أوباما في الولاياتالمتحدة؟ تحت عنوان «نتانياهو رئيساً لأميركا»، كتب كبير المعلقين في صحيفة «هآرتس» عكيفا الدار، افتتاحية قال فيها إن رئيس الحكومة الإسرائيلية دفن مسيرة السلام. ولقد أعلن مراسم الدفن في الكونغرس الذي قاطعه مصفقاً أكثر من عشرين مرة. كذلك استأنف عملية الدفن من على منبر «إيباك». وحجته انه يرفض طلب أوباما بضرورة الانسحاب إلى حدود 1967. أي الحدود التي حوّلها مجلس الأمن إلى مرجعية أساسية في القرارين 242 و338. ولقد استند إليها ستة رؤساء وزراء إسرائيليين وافقوا على إقامة دولة فلسطينية منذ إعلان اتفاقية أوسلو. بين الأمور التي ضاعفت حجم الخلاف بين أوباما ونتانياهو، كان الإعلان الذي أصدره رئيس وزراء إسرائيل حول موافقته على بناء 1500 وحدة استيطانية. واعتبرته وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون من أخطر القرارات التي تعمل على تقويض الجهود الدولية لإطلاق عملية السلام. كما رأى فيها رئيس دائرة شؤون القدس احمد قريع، استفزازاً سافراً لإرادة المجتمع الدولي الذي يطالب بتجميد مشاريع البناء كخطوة تمهيدية لاستئناف المفاوضات. وهو مؤمن بأن إجراءات تهويد القدسالشرقية ليست أكثر من حلقة في مشروع قديم بدأ سنة 1859. يومها اشترى موشيه مونتفيوري بطريق الخداع قطعة أرض من السلطات العثمانية بحجة بناء مستشفى عليها. ثم تبين لاحقاً انه بنى مساكن شعبية للمهاجرين اليهود من روسيا ورومانيا وبولندا. وهكذا استمرت الخطة الرامية إلى تهويد القدس وإلغاء طابعها الفلسطيني (المسلم والمسيحي). وفي ضوء هذه الاستراتيجية، يمكن أن نفهم الدوافع الدينية التي قادت نتانياهو إلى القول إن القدس الموحدة ستظل العاصمة الأبدية لدولة اليهود. أي انه أخرجها من حيّز التفاوض عندما قرر مستقبلها بمنأى عن الفلسطينيين. المبرر الآخر الذي استخدمه نتانياهو في الخطب التي ألقاها خلال زيارته الولاياتالمتحدة، كان واقع التسونامي السياسي – الأمني الذي ضرب الدول العربية، وادعى انه لا يستطيع المقامرة بعقد تسوية مع الفلسطينيين قبل التأكد من طبيعة الأنظمة المحيطة بإسرائيل مثل سورية ولبنان والأردن. أثناء الاجتماع السياسي الذي عقده الرئيس أوباما مع رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون، تمت مراجعة الأوضاع الأمنية في الدول العربية، ومدى تأثيرها على قضية الشرق الأوسط. وقال الرئيس الأميركي انه يرى في هذه الظاهرة فرصة تاريخية للتغيير، بينما يرى فيها نتانياهو مدخلاً واسعاً لعدم الاستقرار، وفرصة لتحاشي التوقيع على سلام غير سليم. واتفق الرئيسان على أن لاءات رئيس الحكومة الإسرائيلية، ستساعد على إحياء التيارات المتطرفة في الدول العربية والإسلامية، وتشجع «حماس» على استئناف نشاط الانتفاضات داخل الأراضي المحتلة. المراجعة الثانية التي أقدم عليها أوباما مع فريق عمله داخل الإدارة، كانت تتعلق بقوة اللوبي الإسرائيلي، ومدى هيمنته على مواقف شيوخ الكونغرس وأعضاء مجلس النواب. والمعروف تاريخياً أن «ايباك» ولدت عقب إرغام إسرائيل على الانسحاب من سيناء بعد العدوان الثلاثي سنة 1956. وقد اتخذ ذلك الموقف الجريء الرئيس ايزنهاور الذي كافأه الشعب الأميركي بإعادة انتخابه. ومنذ ذلك الحين قامت «ايباك» باختراق المؤسسات الرسمية والشركات الصناعية الكبرى ومصادر التمويل للحزبين الديموقراطي والجمهوري. وكان من نتائج نشاطها الإتيان بكونغرس مؤيد لإسرائيل توازن به قوة رئيس الجمهورية بحيث لا تتكرر عملية الضغط التي مارسها ايزنهاور. ومنذ سنتين تقريباً، ولدت في الولاياتالمتحدة مجموعة ضغط يهودية جديدة تدعى «جي ستريت». وفي مؤتمرها الأول، أعلنت أنها مناهضة لطروحات «ايباك»، وأنها تعارض ربط سياسة أميركا الخارجية بمطامع إسرائيل وأهدافها المريبة. وعليه من المتوقع أن تستقطب المجموعة اليهودية الجديدة العديد من العناصر المناوئة ل «إيباك»، خصوصاً إذا أيدها أوباما الذي يراهن على البقاء في البيت الأبيض حتى سنة 2016. ومعنى هذا أن حربه ضد نتانياهو ستكون طويلة جداً. * كاتب وصحافي لبناني.