«يمكن المرء أن يقول ان حياتي كلها كانت عبارة عن موسيقى طويلة جداً لفيلم طويل. كانت الموسيقى حياتي. كانت الموسيقى هي ما يعيدني الى الحياة. والموسيقى هي، بالتأكيد، الطريقة التي بها ستبقى ذكراي بعد أن أفارق هذه الحياة. حين سأموت، سيكون هناك فالس أخير يعزف داخل رأسي، ولا يمكن أحداً غيري أن يسمعه...». بهذه العبارات تحدث موريس جار، عن علاقته بالموسيقى وبنظرته الى موته في واحد من تصريحاته الصحافية الأخيرة قبل سنوات. والحقيقة أن رحيل جار عن عالمنا قبل أيام، عن عمز يناهز الرابعة والثمانين وبعد صراع عنيف مع داء السرطان في منزله غير بعيد من وسط لوس انجيليس، حيث يعيش منذ زمن طويل، أعاد الى واجهة الأحداث والسجالات السينمائية دور الموسيقى في الفن السابع. وهو دور، ليس من المبالغة أن نقول إن جار نفسه كان قد حسمه منذ زمن طويل. وحتى من قبل سنوات الستين من القرن العشرين، حين تحول جار بالتدريج ليصبح أشهر مؤلف موسيقى الأفلام في تاريخ هذا الفن. وأكثر من هذا: رائد العولمة الحقيقي في فن الموسيقى السينمائية. قبل «لورانس العرب» الذي أوصله الى الشهرة العالمية بداية الستينات وفتح له أفق تعاون خلاق مع دافيد لين («الذي أدين له بكل شيء» كما كان جار يقول)، كان جار قد عمل طوال عشر سنوات مع واحد من أكثر المخرجين الفرنسيين أصالة وقدرة على الابتكار، جورج فرانجو، بادئاً عام 1951 بتأليف الموسيقى لواحد من أفلامه القصيرة («أوتيل الانفاليد»)... لكن مع فرانجو، ومع غيره من المخرجين الفرنسيين، ظلت موسيق جار محصورة في اطارها الفرنسي الكلاسيكي ومرتبطة بتكوينه المسرحي، مع بيار بوليز الذي أشركه معه في «المسرح الشعبي الفرنسي»، ولكن منذ 1961، حين كتب جار موسيقى «لورانس العرب» تفجرت طاقاته، ولكن أيضاً قدرته على المزج بين موسيقات مختلفة، ضمن اطار دمجه موسيقى الشعوب والمناطق التي تدور فيها أحداث الفيلم. هنا، الشرق الأوسط مستخدماً أكثر آلاته الموسيقية أصالة، في جمل لحنية تبدو طالعة من عمق الصحراء... والعلاقة مع موسيقى الشرق الأوسط ستتجدد مع جار، في أفلام له «شرق أوسطية» أخرى، أبرزها «ممر الى الهند» لدافيد لين نفسه، ثم «الرسالة» لمصطفى العقاد، وخصوصاً «يسوع الناصري»، العمل التلفزيوني الذي حققه فرانكو زيفريللي، عن رواية انطوني بارغيس. ثم غير بعيد من الشرق الأوسط، كانت هناك موسيقى «دكتور جيفاغو» من اخراج دافيد لين أيضاً... ترى هل يمكن أحداً أن ينسى ذلك اللحن «الروسي» الرائع الذي كتبه جار تحت عنوان «لحن لارا» ويعزف جزء كبير منه على آلة البالالايكا؟ ردٌ على التساؤلات من هنا لم تكن صدفة أن يفوز موريس جار بثلاثة أوسكارات عن أفضل موسيقى أصيلة لفيلم، عن أفلام ثلاثة التي عمل فيها مع دافيد لين، معطياً عمله في كل فيلم طابعاً يربطه، كما قلنا، بمكان أحداثه... وهو أيضاً كاد يفوز بأوسكار أيضاً عن فيلم رابع اشتغل فيه مع دافيد لين: «ابنة رايان» حيث حلت الإيقاعات والألحان الإرلندية، مكان الموسيقى الشرق اوسطية أو الروسية. ونحن إذا كنا هنا قد ذكرنا نحو نصف دزينة من الأفلام التي كتب موريس جار الموسيقى لها، فإن عمله لم ينحصر فيها بالطبع، بل انه كتب الموسيقى لنحو خمسين فيلماً وعملاً تلفزيونياً، اضافة الى كتابته بين الحين والآخر كونشرتوات وموسيقى الحجرة. ومن هنا حقق جار طوال ما يقرب من نصف قرن متناً موسيقياً متنوعاً، يجيب في حد ذاته عن تلك التساؤلات التي ما برحت تطرح من جانب هواة الموسيقى الكلاسيكية ومحبي الموسيقى في شكل عام: لماذا يبدو التأليف الموسيقي «الكلاسيكي» وكأنه اختفى من قاموس العالم في القرن العشرين؟ أعمال موريس جار للسينما - والتلفزيون - تقول انه لم يختف. غيّر وظيفته، صار يكتب للسينما. لكن المشكلة هي أن كثراً من مؤلفي الموسيقى، ارتضوا بأن يكتبوا أعمالهم تزييناً للأفلام وترجمة آلية، ربما - وعاطفية في معظم الأحيان - لأحداث الفيلم ومواقفه. أما موسيقيون من طينة موريس جار - وجون ويليامز، ومايكل روزا واينو موريكوني، ونينو روتا، وغيرهم وغيرهم وصولاً الى اللبناني غابريال يارد، الذي يبدو بالتدريج أنه يحتل مكان ومكانة موريس جار تحديداً - فقد جعلوا الموسيقى في الفيلم شيئاًَ آخر تماماً: فناً يتكامل مع فنون السينما الأخرى من صورة وصوت وسيناريو وتوليف: لا يترجمها ولا حتى يكتفي بضبط ايقاعها، بل يعطيها حياة ثانية تتكامل معها... الى درجة أن المتفرج الحقيقي لفيلم من الأفلام يظل على علاقة أخاذة مع موسيقى الفيلم، حتى بعدما ينسى الفيلم نفسه بسنوات طويلة. طبعاً نقول هذا ونفكر مثلاً بموسيقى «لورانس العرب» في المشاهد الصحراوية، أو ب «لحن لارا» في دكتور جيفاغو، أو في الكريشندو الذي يصاحب ركض «ابنة رايان» على المفازة قرب البحر... او في موسيقى السيتار والطبلة المصاحبة لعبور القافلة في «ممر الى الهند»، ولكن أيضاً بجمل معينة في أفلام أقل استعراضية: المناخ العاطفي في موسيقى «شبح»... وبموسيقى «جمعية الشعراء الميتين» أو «شاهد»... أو بالموسيقى التي تصاحب مشهد الختام في «ايزادورا» حين تكون فانيسا ريدغريف ساهمة منتشية في السيارة الرياضية المتوجهة على الطريق في جنوبفرنسا، شاعرة أن الدنيا كلها سعادة، قبل أن يتمدد شالها في الهواء ثم يعلق بإطار السيارة و... يخنقها... ان الموسيقى التي كتبها موريس جار لمثل هذه اللحظات، لا تعبر فقط عن المشهد، بل تعطيه حياته... ومن العبث طبعاً أن نعطي أمثلة اضافية هنا، ذلك اننا حيثما قلبنا نظرنا في أي واحد من الأفلام التي كتب جار موسيقاها، سنرى - أو نسمع - ما من شأنه أن يعزز حضور الموسيقى الرديف في السينما. إنفاق بلا حدود أما الغريب في هذا كله، فيكمن في ان موريس جار، بعد رحلته الفرنسية الأولى، ومنذ صار حاضراً بقوة في السينما العالمية، عمل مع كبار الكبار في فن السينما، من دافيد لين، الى ألفريد هتشكوك، ومن جون هستون الى ايليا كازان، ومن فرانكو زيفريللي ولوكينو فسكونتي وبيتر واير الى انطونيوني. ومع هذا أتيح له، تحت ادارة هؤلاء الكبار، أن يأخذ كل حريته، ويؤلف موسيقاه كما يريد، حتى وان كان المخرجون المذكورون وغيرهم من النوع الذي يقبض على فيلمه من أوله الى آخره، بحيث يكون هو مؤلف الفيلم. إذاً، عرف موريس جار كيف يخرق هذه القواعد، وكيف ينال ثقة هؤلاء المخرجين... ومنتجيهم أيضاً. ذلك أن هذا الفنان الاستثنائي، والذي كان منذ أواخر الخمسينات رائداً حتى في استخدام الموسيقى الالكترونية (في سلوك درب سيستكملها لاحقاً ابنه الأكبر جان - ميشال جار)، راح يصر بعد ذلك على استخدام أوركسترات كبيرة وكاملة في تسجيله موسيقى الأفلام التي اشتغل عليها. ولئن كان النقاد قد لاموه في البداية على تلك الوحدة التي كانت تطبع الموسيقى التي يكتبها لفيلم واحد، مع استثناءات في أعمال مثل «هل تحترق باريس؟» لرينيه كليمان، أو «أطول يوم في التاريخ»، فإن وحدة التأليف الموسيقي في أعمال أخرى، لا تقل ضخامة مثل «لورانس» و «القطار» (من اخراج جون فرانكنهايمر) و «العملاق الأخير» (من اخراج ايليا كازان)، تمكنت من الاقناع والسيطرة بالتدريج، ولا سيما بعد النجاح الساحق لموسيقى «دكتور جيفاغو» حيث تهيمن الجملة اللحنية نفسها من أول الفيلم الى آخره. ومن الواضح ان هذا الاستخدام الأوركسترالي الضخم، كانت كلفته المادية دائماً باهظة (ما كان يجعل أفلاماً سابقة تستخدم الأوركسترا فقط في لحظات مفصلية من الفيلم كما لدى مايكل روزا وجون ويليامز، حيث آفاق الكلفة المالية تلجم تطلعات المؤلفين). ومن هنا يعترف جار دائماً بفضل دافيد لين، الذي فهم أبكر من غيره أن الإنفاق بسخاء على الموسيقى سيكون مردوده على العمل الفني كبيراً. فهم باكراً، ما كان موريس جار يقوله، وسيظل يقوله من أن «على الموسيقى أن تعطي الفيلم بعداً اضافياً قائماً في ذاته. عليها أن تقول أموراً لا تشاهد على الشاشة أو تُسمع في الحوارات... وأنا اعتقد أن قوة المؤلف الموسيقي تكمن في انجاز هذا كله من دون تحطيم التوازن الدرامي في الفيلم. وأعرف طبعاً أن هذا ليس سهلاً... وأننا لا ننجح فيه دائماً. لكنني أعتقد أيضاً أن هذا يجب أن يكون على الدوام هدفاً لنا...».