أكد القاضي، رئيس محكمة بريدة سابقاً الشيخ علي بن محمد الربيش، أن الفقه الإسلامي ظل منذ القرون السابقة، له علاقة بحقوق الإنسان، وإن لم يتم تخصيص أبواب لذلك، غير أن معظم أبواب الفقه لا تخلو من ذلك، ضارباً لذلك أمثلة عدة.وأبدى الربيش سعادته بالتنظيمات الجديدة التي أقرها ولاة الأمر بشأن إلزام الجهات الحكومية بحضور جلسات المحاكمات في القضايا المقامة ضدها، إلا أن الربيش الذي أمضى في القضاء نحو 40 عاماً، حذر من أن تتحول بعض الأحكام إلى حبر على ورق بسبب إعاقة تنفيذها. وفيما يتصل بالجد الدائر حول ما تنشره الصحافة من المداولات القضائية وما لا ينبغي أن ينشر، أوضح الربيش في حواره مع «الحاة» أن «المطالبة بتجريم الصحف وكتابها لما تنشره عن القضاة وإن كان نقداً، فيه منع لهم من ممارسة حقهم المشروع والمعترف لهم به عالمياً، وفيه الإيحاء بأن للقضاة عصمة تمنع أن يناقش ما أصدروا من أحكام، وهذا أمر ليس فيه مصلحة للقضاء، ولا فيه مصلحة من تعرض قضاياهم عليه، كما أن القول بأن هذا النشر لا يتم إلا في بلادنا هو قول مجانبٌ للحقيقة، بعيدٌ عنها كل البعد، ولو قيل العكس لكان أصح نقلاً للواقع». فيما يلي نص الحوار. حدثنا عن نشأتك العلمية؟ - أنا كما تعلم علي بن محمد الربيش من قبيلة عنزة، انتقلت أسرتنا من شمال المملكة إلى عيون «الجواء»، ثم استقرت في بريدة بمنطقة القصيم، وانتشرت في عموم المملكة، من مواليد بريدة عام 1357ه، متزوج ولدي ثلاث زوجات، لي منهن تسعة أولاد، وتسع بنات والحمد لله. وكان والدي رحمه الله إمام وخطيب جامع البابطين الجنوبي في بريدة، وكان كاتباً عند الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد، وكان حافظاً القرآن الكريم وملماً بالفقه والحديث وعلوم الرجال، وطلب منه الشيخ تولي القضاء فامتنع، وحاول معه الشيخ محمد بن إبراهيم فاعتذر عن ذلك، فتم تعيينه كاتب عدل لحين تقاعده. درست في مدرسة المنصورية في بريدة، وعندما افتتح المعهد العلمي ببريدة عام 1373ه انتقلت إليه، وواصلت تعليمي إلى أن التحقت بكلية الشريعة في الرياض وتخرجت فيها عام 1382/1383ه. وماذا عن تاريخكم مع القضاء؟ - عينت ملازماً قضائياً في المحكمة المستعجلة (الجزئية) في بريدة في 6/6/1380ه والتي افتتحت عام 1380ه وكان قاضيها الشيخ علي بن محمد السالم وبعد ثلاث سنوات أصبحت بديلاً عنه قاضي ج، إذ قسمت المحكمة إلى المستعجلة الأولى وكنت رئيساً لها والتي تختص بالجنايات والجنح ونحوها، والثانية تختص بالحقوق وكان رئيسها آنذاك الشيخ عبدالرحمن الجار الله، فواصلت العمل لوحدي حتى عام 1402ه، فعين معي الشيخ صالح العثمان ثم تواصل القضاة حتى بلغوا تسعة، وبقيت بها حتى تقاعدت في 30/6/1427ه على درجة رئيس محكمة تمييز، براتب كامل، وبخدمة تصل إلى 44 عاماً، قضيتها في خدمة القضاء بين الناس، وسخرت جل وقتي لكل من يريد الوصول إلى الحق والصواب. هل لك أن تحدثنا عن جانب من تجربتك القضائية، وما خرجت به منها؟ - خدمة القضاء شرف عظيم، وأمانة ومسؤولية كسبت خلالها ثقة الناس وحبهم راجياً ثواب الله سبحانه وتعالى ورضاه، فقد كنت حريصاً على الحضور باكراً والخروج متأخراً، فأسهم ذلك في التسريع بإنجاز القضايا الكثيرة. وأذكر أنني أنجزت 2552 قضية لوحدي في عام واحد، وكنت أحرص على تطبيق اللغة العربية في قولي وكتاباتي في الضبوط والمعاملات، بحسب الإمكان، وكنت أخدم القضاء في جميع الأوقات، فكانت تجربة رائدة، خرجت وأنا راضٍ عمّا قدمت، فلم يكن كف البصر عائقاً أمام أداء ما هو مطلوب مني. أسهمت في حل كثير من قضايا تنازع الأسر، وقمت بواجب إصلاح ذات البين، على رغم صعوبتها التي تواجهني، فتداركت النزاعات التي يصعب معها الوصول إلى الحلول التي تجلب الود والوئام، ومع ذلك تحقق الكثير بحمد الله وفضله، والله المستعان. ماهو انطباعك حول المحكمة العليا والأدوار المنوطة بها؟ - انطلاقاً من اهتمام خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، فقد صدر نظام القضاء وآلية العمل التنفيذية له، بالمرسوم الملكي الكريم عام 1428ه، وبالرجوع إلى نظام القضاء، وجد أنه اشتمل في مادته العاشرة على إنشاء محكمة عليا يكون مقرها مدينة الرياض، وقد خصص النظام مواده من العاشرة حتى الرابعة عشرة للمحكمة العليا من حيث: تكوينها واختصاصاتها وتشكيل دوائرها وتأليفها وكيفية انعقادها. وما يتعلق بالهيئة العامة للمحكمة وبيان اختصاصاتها وتأليفها وطريقة انعقادها واتخاذ قراراتها.. إلى غير ذلك من الاختصاصات. ولعل الهيئة الدائمة بمجلس القضاء فصلت وأصبحت هذه المحكمة. فالمحكمة العليا هي أعلى سلطة قضائية في محاكم القضاء العام، وتهدف إلى مراقبة المرافعات الشرعية ونظام الإجراءات الجزائية، ومراقبة سلامة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض معها، في القضايا التي تدخل ضمن ولاية القضاء العام، وذلك في الاختصاصات الآتية: - مراجعة الأحكام والقرارات التي تصدرها أو تؤيدها محاكم الاستئناف، بالقتل أو القطع أو الرجم أو القصاص في النفس أو فيما دونها. - مراجعة الأحكام والقرارات التي تصدرها أو تؤيدها محاكم الاستئناف، المتعلقة بقضايا لم ترد في الفقرة السابقة أو بمسائل إنهائية ونحوها، وذلك دون أن تتناول وقائع القضايا، متى كان محل الاعتراض على الحكم، «مخالفة أحكام الشريعة الإسلامية، وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض معها». وغير ذلك من القيود التي نص عليها النظام. ما رأيكم في التقاضي سابقاً وحاضراً من حيث الانضباط والإنجاز؟ - القاضي في السابق ومن خلال التاريخ الإسلامي كان يجلس في مكان القضاء باكراً يستقبل الناس، حالّاً همومهم، ومطّلعاً على شؤونهم، إنه حجر الزاوية في الحكم في البلدة، كانوا هم مضرب المثل في التزامهم بالوقت، وذكرني هذا السؤال بقضاة بريدة الأوائل كيف كانوا مخلصين لما يقومون به، وأذكر الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد، ورئيس المحاكم المشهور بنزاهته وبزهده وانضباطه المعروف الشيخ صالح الخريصي، وغيرهم كثر. وكنت حريصاً على الحضور باكراً وألا أخرج إلا آخر الدوام، ما أسهم في التسريع بكثير من القضايا فكان التعود ديدني ومنهجي حيث الأمانة المعلقة والمسؤولية الملقاة، والقضاة يتطلب منهم أن يكونوا قدوة لغيرهم ومثالاً يحتذى به، والمسؤولون في وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء والمحكمة العليا حريصون على كل ما يحقق المصلحة، وصدرت التعاميم التي تطالب بالمحافظة على الانضباط. هل من ارتباط بين الفقه الإسلامي وحقوق الإنسان؟ - نعم، بين الفقه وحقوق الإنسان ارتباط وثيق، لدرجة قد يعتبر موضوع حقوق الإنسان من موضوعات الفقه الأصلية، وهذا ما يراه بعض الفقهاء الذين وجدوا أن هذا الموضوع متداخل مع جملة من مباحث الفقه كالعبادات والمعاملات من العقود والإيقاعات والأحكام وغيرها، وإذا كان هذا الموضوع حديث الانفراد إلا أنه قديم الموضوع والبحث، ولذا أكثر الفقهاء من ذكر الحقوق في مختلف الكتب. وتسليط الضوء نظرياً على مسألة حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي يعود إلى طريقة التنظيم، وإلى تقاليد هذا الفقه، فبما أن لكل الحقوق في الفقه الإسلامي المستنبطة من القرآن الأهمية نفسها، فلا يوجد لها في العادة فصل مستقل في كتب الفقه ومصادره، بل نجدها منتشرة في الفصول المختلفة تبعاً لموضوعها، مثلاً في قانون الأحوال الشخصية، وفي القانون الجنائي والقانون الاقتصادي. وفي ساحة الفكر الإسلامي المعاصر هناك من يؤيد الطريقة السائدة والقديمة في الفقه الإسلامي، إذ تتوزع مسائل الحقوق وحقوق الإنسان على مختلف أبواب الفقه ويأخذ بهذا الرأي الباحث المصري الدكتور جمال الدين عطية الذي يجد في هذه المنهجية أنها توفر إمكانات للتطبيق، وحسب قوله: لا نجد باباً خاصّاً في كتب الفقه الإسلامي أو السياسة الشرعية أو غيرها من علوم الشريعة مختصاً بحقوق الإنسان، ذلك أن الشريعة اهتمت بمعالجة كل حق في موضعه من الباب الفقهي الذي تعلق به، حتى يأخذ وضعه العملي في جسم الشريعة، وبالتالي في التطبيق في حياة الناس وهو المقصد الأساسي للشريعة. وهناك من يؤيد تخصيص باب مستقل لهذا الموضوع يدرَّس ضمن أبواب الفقه المتعددة. ويأخذ بهذا الرأي الثاني الشيخ محمد مهدي شمس الدين وآخرون، وفي هذا الشأن يرى الشيخ شمس الدين أن موضوع حقوق الإنسان لم يتبلور في بحث فقهي واحد، وفي باب من أبواب الفقه كما هو متعارف في تصنيف الفقه وتقسيماته، ومن هنا نقترح أن تقوم المعاهد والجامعات العلمية في مستوياتها الدنيا والعليا بالتوفر على مثل هذا البحث بعنوان: كتاب حقوق الإنسان. ولا شك في أهمية وضرورة أن يأخذ هذا الموضوع مكانته الحيوية في منظومة الفقه الإسلامي ويخصص له باب يعني به، وذلك لأهميته المتعاظمة عالمياً من جهة، ولارتباطه الوثيق بأي مشروع حضاري إسلامي معاصر من جهة ثانية، ولكثرة الابتلاء به في المجالين العربي والإسلامي من جهة ثالثة. ويتأكد هذا الموقف عند معرفة أن الفقه الإسلامي له إسهاماته وإضافاته المهمة والثرية في مختلف مجالات العلوم وقضايا الحياة، ويمثل ثروة ضخمة جداً تعتبر من أهم كنوز المعرفة الإسلامية والحضارة الإسلامية، ولعله بحسب رأي الدكتور عبدالمجيد الشرفي في كتابه (الإسلام والحداثة) الصادر سنة 1991، أنه لا توجد حضارة ركزت على الناحية التشريعية تركيز الحضارة الإسلامية، إذ كانت جميع أعمال المسلم البالغ وحركاته وسكناته تخضع لأحكام الحلال والحرام والمندوب والمكروه والمباح. وهذا يعني أن بإمكان الفقه الإسلامي أن يمثل رافداً حيوياً لموضوع حقوق الإنسان، وكل ما يتصل به من قضايا ومفاهيم ومع هذا فإني أقول إن القضاة الشرعيين بحصافتهم وسعة اطلاعهم وسرعة بادرتهم يصلون إلى الأحكام الشرعية المطلوبة من كتب الفقه المشهورة المستندة إلى الأدلة من القرآن والسنة المطهرة. نسمع أحكاماً قضائية بالمنع من السفر، فما الموجب لها في نظرك؟ - لا يجوز المنع إلا لأسباب محددة تتعلق بالأمن ولمدة معلومة، ويبلَّغ الممنوع من السفر في فترة لا تتجاوز أسبوعاً من تاريخ صدور الحكم أو القرار بالمنع من السفر. وكما أن نظام المرافعات الشرعية، نظم في مادته (236) هذا الأمر، بنصها على أن «لكل مدع بحق على آخر أثناء نظر الدعوى أو قبل تقديمها أن يقدم إلى المحكمة المختصة بالموضوع دعوى مستعجلة لمنع خصمه من السفر، وعلى القاضي أن يصدر أمراً بالمنع إذا قامت أسباب تدعو إلى الظن أن سفر المدعى عليه أمر متوقع وأنه يعرض حق المدعي للخطر أو يؤخر أداءه، ويشترط تقديم المدعي تأميناً يحدده القاضي لتعويض المدعى عليه متى ظهر أن المدعي غير محق في دعواه ويحكم بالتعويض مع الحكم في الموضوع ويقدر بحسب ما لحق المدعى عليه من ضرر». وخلافاً لما جاء في أحكام النظام لتحديد من ينطبق عليه المنع من السفر، فإن هناك ظروفاً استثنائية ومحددة يتم فيها المنع من السفر وتعد كالعقوبة التبعية كما في القرار رقم (11) الصادر من مجلس الوزراء عام 1374ه، والذي يطبق على الأشخاص المدانين في جرائم تهريب المخدرات، والمعدل بنظام مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/39، وتاريخ 8/7/1426ه. ما تنشره الصحف «جلّه» مشروع ماذا عن القضايا التي تتناول فيها الصحف السعودية القضاة والمحاكم؟ - «ما تنشره الصحف عن القضاء متنوع، وجله مشروع، لا يؤثر في مجريات التقاضي أمام المحاكم، ففي الصحف في كل البلدان زوايا ثابتة لأخبار المحاكم، تتابع فيها أهم القضايا التي تفرض على المحاكم، وما يجري من مرافعات، وتنشر ما يصدر عنها من أحكام، فالتقاضي في الأصل علني لا سري، يسمح فيه للناس بحضور المحاكمات، ونشر مثل هذه الأخبار يعضد ما يقوم به القضاء من دور مهم في إحقاق الحق، وإنصاف المظلوم، وقد يستفيد من ذلك المختصون من محامين، أو أساتذة متخصصين في الأحكام، في مناقشة ما فيها من أدلة وقرائن، ولا يضير القاضي النشر بل قد يكون عوناً له في تصويب ما يصدر منه مستقبلاً، ولا يمنع من النشر إلا ما يُظن أنه يؤثر في مجريات التقاضي حين نظر القضية أو ما يرى القاضي عدم إعلانه لقصد الستر كقضايا خاصة وقضايا الأسر والزوجية ممّا لا فائدة لنشرها بين الناس لأن القصد تضييق الهوة بين المتخاصمين ولم الشمل». وهناك تعميم صدر من جانب وزير العدل في العام الماضي يقضي بحظر نشر وقائع التحقيقات والمحاكمات التي لا تزال تحت نظر القضاء، وطالبت هيئة الخبراء في مجلس الوزراء من وزارة الإعلام التأكيد على الصحف والمجلات بالالتزام بما يقضي به نظام المطبوعات والنشر، وقضاتنا الأفاضل ليسوا ممن يتأثر بالرأي العام، فهذا الأمر يكاد يكون معدوماً، فمثلاً نجد الأحكام التي تصدر بالجلد المبالغ فيه في قضايا التعزير تنتقد كل يوم، ومع هذا يتوالى صدورها، وتزداد المبالغة في أعداد الجلدات فيها، فالمطالبة بتجريم الصحف وكتابها لما تنشره عن القضاة وإن كان نقداً، فيه منع لهم من ممارسة حقهم المشروع والمعترف لهم به عالمياً، وفيه الإيحاء بأن للقضاة عصمة تمنع أن يناقش ما أصدروا من أحكام، وهذا أمر ليس فيه مصلحة للقضاء، ولا فيه مصلحة من تعرض قضاياهم عليه، كما أن القول بأن هذا النشر لا يتم إلا في بلادنا هو قول مجانب للحقيقة بعيدٌ عنها كل البعد، ولو قيل العكس لكان أصح نقلاً للواقع». «العالم اليوم من حولنا يشجب تجريم النشر، ويرفض أن تمس حرية الصحافة. وليطمئن أصحاب الفضيلة القضاة المساندون لهم أن لا أحد في صحفنا يستهدفهم، وإنما تمارس الصحف دورها المعترف لها به عبر العالم، أن تنتقد كل خلل، أو قصور، أو خطأ ولا عصمة لأحد من البشر حتى ولو كان قاضياً أو شيخاً مفتياً تمنعهم من توجيه النقد إليه إذا أخطأ، فهذا دورها الأصيل الذي إن تخلت عنه لم تعد صحافة محترمة يتابعها القراء، ويحرصون عليها، فهل يدرك الجميع ذلك، إلا أنني لما أعرفه عن القضاة واهتماماتهم وحرصهم الدءوب على التأمل ومحاولة الوصول إلى الحق من مظانه وأنهم لا هدف لهم سوى ذلك، فإنهم ربما لا يسلمون ممن يكتب قاصداً الشناءة والتشويه، وهذا لا يضير أصحاب الفضيلة بشيء ولا يعوق سيرهم المطلوب منهم، فهؤلاء المسيئون قلة».