أصبح تحت نظر مؤرخ الأدب ودارس الرواية العربية اليوم متنٌ ما فتئ يتصل وينمو، يقوم كلُّه حول تيمة الانتفاضات وحركات الاحتجاج التي عمّت عديد بلدان عربية في سياق ما اصطُلح على تسميته «الربيع العربي». خاصية المتن الأولى هي الفورية، إذ كتبت نصوصُه الأولى مباشرة عقب ما اضطرم من أحداث في هذه البلدان على صعيد شعبي واسع بالاحتجاج والرفض للواقع السياسي المهيمن، وإما الانقلاب رأساً على عقب ضد النظام الحاكم، برز تجليه الأقوى في تونس، التي قدحت الزناد، لحق مصر بعدها الشرر، هكذا رحل حاكماها وعُوِّضا بغيرهما. الخاصية الثانية هي المحايثة، طفق الكتاب يؤلفون وينشرون نصوصهم مترافقةً أو متزامنةً بتلازم الحدث وتصاعده أو انكساره طرداً وعكساً، في الحالتين اتسمت هذه الكتابة بطابع الاستعجال، وظهرت مباشرة إلى حدّ صارخ، وبهذين الخاصيتين، تنضوي في إطار الشهادة، يعبر فيها الكاتب عن موقف، ويعلن عن انتمائه. يزوّدنا تاريخ مقاومة وانتفاضة الشعوب بأمثلة عن كتابة لمناهضة الاستعمار ونُصرة المقاومة، يتسم غالبُها بالحماسة ويبغي استنهاض الهمم، أكثر من أن يندرج في سجل أدبي. ربما كان التصنيف القبْليّ لهذا النوع من الخطاب هو ما يُحدث سوءَ الفهم وبلبلة التأويل. على العكس، حين يتصدى كتابٌ مميّزون لمواجهة الاستبداد والدكتاتورية بأعمال روائية تشيَّد بمعمار مُحكم وتحتفي بعوالمَ وشخصيات تراجيدية، تنسغ من ثقافة ومخيال شعوبها وتطلعها إلى الحرية، كما نعلم في كثير من روايات أميركا اللاتينية حيث طال أمد حكم العسكر. منذ 2011 وإلى الآن، بين أيدينا مدوّنة روائية، قل محكياتٍ نُزّلت باسم هذا الجنس في بلدان عربية سورية ومصر وتونس مركزها، ولها امتدادات ورجع صدى في بلدان غيرها. في سورية على الخصوص، حيث أوار الصراع على الحكم ما زال مشتعلاً، وعنها كتبت أهم الروايات تصويراً وتمثيلاً ونمذجة، شأنه على صعيد المنظور والصياغة والبناء، نحسب أقواها في قراءتنا روايات خالد خليفة «لا سكاكين في مطبخ المدينة» (2008) وسمر يزبك «المشّاءة»،(2017) ابتعدت أكبر مقدار عن الفجاجة بحرص على تقديم عالم روائي متناغم. ينبغي الانتباه إلى أن الرواية المكتوبة في حقل المواجهة السورية الداخلية، بأقل تسمية محايدة، واجهت ضرباً من التحدي لم يلقه غيرها، تمثّل في كون الواقع مناطَ رصدها وتصويرها هو من استفحال العنف والغرابة وانقلاب المعايير وأشكال السلوك والمجابهة، بما يفوق الخيال درجات، ويتحول إلى إبدال له، فماذا يتبقى للروائي الذي أداته، بعد اللغة والخبرة الجمالية لفنه، ليرسيَ مدماك عمله، عالم التخييل أو لباسه، لا جواز وتسمية من دونه. إذ حين يصبح الواقع أغرب من الخيال، أيّ شرعية لجنس الرواية، قد صودر رأسُ مالها، تضؤل إن لاحقت ظلَّه، تتهافت شعاراً وتهيج خُطباً، فتنفي أطروحة مقتضى جنسها أصلاً. كان كافكا، الذي انمسخ صرصاراً، وجورج أورويل من أبدع أيقونة «الأخ الأكبر» في (1984) هما أول من انتصر على التحدي، في زمنهما طبعاً، وإلا فإن ثربانتس هو الرائد. وتلاهما جيل من روائيي أميركا الجنوبية منذ دشّن لهم المكسيكي خوان رولفو بنصه الحكائي المدهش «بدرو برامو» نهجاً مغايراً لرؤية واقعهم ومنظور التخييل، ذاك الذي سيشتهر بمصطلح الواقعية السحرية، هو الابن الشرعي لبيئة وروح ثقافة ومخيال حضارة. ماذا يستطيع مازن عرفة صاحب رواية «الغرانيق» (نوفل- هاشيت، 2017) أن يفعل، كيف يكتب عن بلده الأصلي سورية وهي في مطحنة حرب داخلية ضروس، وله موقف مسبق، عارٍ، أي مناصر لطرف ضد آخر، لمن عنده يقودون الثورة الشعبية ضد الجنرال الزعيم وقواه وأجهزته، لا تنفع هنا تقِيّةُ التعويم والتعميم والتستّر بحُجُب التجريد وغياب الخريطة والأسماء، نظير ما وقفنا عنده في» بريد الليل» لهدى بركات، فللخوف أحكام، زد فهماً مبسطاً لكيفية تجاوز واقع مُعطى سلفاً؟ هكذا، إذ يتمثل له الواقع أغرب من الخيال، حقيقةً أو تهويلاً له ليتأتى فضحُه والتشنيع عليه انسجاماً مع موقف الالتزام مع الثوار ضد الجنرال، يتبنى» تقنيات» تعوّض صفاقة وضع أغرب في واقعية قمعه ودمويته، بتصعيده أعلى ما يمكن، وهي ما نُجملها في النوع الأسلوبي والصوري الشامل يختزله بالفرنسية والإنكليزية مصطلح Le grotesque: نوعٌ غير متجانس يجمع الهزليَّ والقدحيَّ والسحريَّ والخارق، تتفاوت هذه الآثار الأسلوبية حضوراً ولعباً بدرجة حالة الشخصية والموقف والغرض. وتأتي «الغرانيق» للروائي فتعجنها على نحو فريد لترسم بانوراما كرنفالية تراجي كوميدية باهرة. يبدأ كل شيء وينتهي في بلدة صغيرة «لا اسم لها» من «مواطن صغير» أيضاً، هو محورها بما أنه العين الراصدة، والصوت السارد، هو ملتقى طرق ومفترق بقية الشخصيات وتكوّن الأحداث ومجرى المحكيات، كبرى وصغرى، وهي تتداخل وتتقاطع وتتماهى وتلتبس، لكي لا يوجد ويتقاطب إلا شخصيتان رمزيتان، أيقونتان: الجنرال المتسلط، والشعب الثائر ضده. مواطن صغير تمضي حياته موظفاً بإدارة السجل المدني وعشرة زوجته ضخمة الجسم، وصحبته في» مقهى الثورة» كل مساء للعب الورق، ساعي بريد، سائق شاحنة، موظف في مقبرة. يعرفنا نفسُه على تفاصيل حياته وطقوسها بدءاً من الزوجة بأرتال لحمها، مثل جميع النساء موصوفات بأجسام مهولة من طبيعة تهويل وتبشيع مقصودين، انتقالاً إلى جواره حيث مجتمعٌ كل همِّه الطعام والجماع والعيش في رعب من سطوة الجنرال رمزاً يتخّذ أشكالاً ويتضاعف أعواناً وأهوالاً، كوابيس، يصير حتى شريكاً له للرجال في مضاجعهم، استخدم أورويل الشاشات المراقبة، وعرفة يبث العيون، شخصية «أبو العينين» في كل مكان، زارعاً الخوف في النفوس، يتهتك الأعوان يفسقون وينهبون، وبينهم مواطنون ركّع سُجّد متعاونون انتهازيون، أو هم لاهون متفرِّجون يعانون، وآخرون أُخصوا في ماضيهم واستُخدموا مخبرين، أخيراً مطحونون متحفزون، نُهبت أراضيهم وسوموا خسفاً، مع أبنائهم سيشكلون قوة في وجه الطغيان ويتعرضون لأبشع القتل والتنكيل من الجنرال اللاّ يقهر. هي خطاطة تتخذ تمثيلات منمذجة، تتكاثر فلا تنمو وإنما تتنمّط، لا أحداث تمضي في خط أفقي، قل إنها تتراوح بين سرد خطي وثانٍ تتمثل فيه الشخصية محوراً عمودياً يتبأّر حولها الحكي وموضوعه، تعطي انطباع استقلاليتها بفاعلية حضور يؤدي دوراً تكوينياً لأضلاع الرواية ورؤيتها، وتكاد تبلغه أحياناً إذ يصورها المؤلف مسكونةً بهلوسات وتسبح في أجواء غرائبية، وبخصائص ذاتية موصوفة (الهرش، التحوّل)، لكنه لا يلبث يستدرك فيقيِّد أيديها يعود بها هي ومن معها وما حولها إلى بيت طاعة الواقع المهوّل، في حضيرة جبروت الجنرال، حيث يحلو له هنا أكثر من أي محفل آخر أن يعريَ ويندد ويبشّع «غرانيقه» تلك. بعد «الغروتيسك» فإن «الباروديا» ربما قبل آلياته، هي المحفل الأوسع والأشمل الذي ينضوي فيه هذا السرد المنتسب إلى الأسرة الكبيرة ل «الربيع العربي» بأكثر من خيط، لم لا تكون سخرية الأقدار والخيبة أحدها ولوناً فاقعاً فيها لا مثيل لإظهاره مثل السخرية السوداء؟! وتعمد الباروديا إلى السخرية من أعمال (نصوص) أو أفعال مستعملة شخصيات أو أسلوباً أو مؤسسة، هي تنهض على قلب العلائق والمبالغة والتضخيم في طباع موضوع الباروديا. تشتغل عند مازن عرفة إستراتيجية كاملة، حيث يتحول واقع مدموغ بالاستبداد والدموية وقهر الشعب والانبطاح ثم الانتفاض أخيراً، بقوة الأشياء، إلى نص مغلق تخضعه الباروديا لمبضع تحويلها وهزئها ومجمل أدوات لعبها، من ضمنها الخطابات واللغات بالتهجين والأسلبة، وهنا تحضر الباروديا بمفهوم باختين في «الخطاب الروائي» بوصفها نوعاً من الأسلبة تقتحم فيها لغة مشخَّصة وتصطدم بها بالفضح والتحطيم. ما يمهر فيه الكاتب إلى حد بعيد، بل مسرف، فإما يستهويه رسم أوضاع وهيئات بهلوانية إمعاناً في الغروتيسك، وإما يضخم قاموس القذع والتشهير، يمثل وحده سجلاً من سجلات النص، سابقاً عليه، استخدمه الكاتب مرة بعناية، مرات اعتباطاً، تغذِّي النزعة السجالية لروايته. ليست هنا مثلباً، بل مقوم أساس في محكيها وخطابها ومعناها، استمر عبر مسار شخصية الموظف الصغير ومعاناة أو سلوك جيرانه الأضداد في البلدة الصغيرة، موالين وإما محفزين بشعار(حرية، كرامة قاد الثائرين ضدّ (الجنرال) وعسكره، ينقلنا المؤلف السارد، الموظف من بؤرة وعيه، عينه في شرفة شقته، يواصل رسم اللوحة البانورامية في فصول الروية لشكل الغرانيق وتقتيلهم، يواجههم شباب الانتفاضة (كذا) انتهاء إلى خاتمة يدين فيها الطرفين. من حقنا في الختام، أن نسأل ما هو نوع هذه الأثر ضمن سجل الرواية العربية المديد والمتنوع الآن، وعياً وتشكّلاً؟ ونسأل، هل يمكن كتابة الرواية بانفصال عن صيرورتها وأسئلتها الجمالية والتكوينية، أو بتماس هش بها؟ هل يمكننا أن نرى في نص مازن عرفة الاقتراح الفنيَّ الأنسب راهناً تجاه أوضاع الخراب والاستبداد في العالم العربي، كان دشنه عبد الرحمن منيف بطريقة خصوصية في «شرق المتوسط»، وقد انزاح عن تجارب سابقيه ويرتئي، خلافاً لمن يصطنعون، يلفقون الروايات بالسِّير والحبكات التاريخية، أن ليس كالشهادة المباشرة والتحويل الساخر المرير جواباً عمّا نعيش؟ هي أسئلة مفتوحة للتأمل.